بكلماتهم: معالجين ومعالجات من غزة

يتحدثون عن تداعيات الإغلاق على الصحة النفسية

"هناك علاقة متشابكة بين الإغلاق الإسرائيلي والحالة النفسية لسكان غزة. يشبه الإغلاق نقطة حبر في بركة ماء، تتسرب وتنتشر في كل مكان وتلمس كل شيء".

نداء مرتجى، أخصائية نفسية، غزة.

يعيش سكان قطاع غزة منذ عقود تحت تقييدات إسرائيلية صارمة على الحركة والتنقل، والتي تم تشديدها في عام 2007 لإغلاق خانق.

لم يتعاف بعد قطاع غزة من الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي في أيار 2021، حتى واجه سكانه (نصفهم من الأطفال) مرة أخرى رعب الموت الناجم عن عدوان مدمر آخر بدأته إسرائيل في آب 2022.

البنى التحتية الأساسية في غزة على حافة الانهيار منذ سنوات. الكهرباء متوفرة فقط لنصف ساعات اليوم، أكثر من 90٪ من المياه غير صالحة للشرب، والبطالة آخذة في الازدياد. يضاف للوضع المعيشي في القطاع الأضرار المتراكمة الناجمة عن الهجمات العسكريّة المتكررة التي تودي بحياة الكثيرين وتلحق الضرر بالسكان وبالممتلكات على حد سواء.

لكن هناك أضرار أخرى خفيّة عن الأعين:
التأثير طويل المدى للإغلاق على صحة سكان قطاع غزة النفسية.

في أواخر عام 2021، جمعت "جيشاه – مسلك" وبرنامج غزة للصحة النفسية معالجات ومعالجين من عدة مراكز للصحة النفسية في القطاع لتناول تأثيرات الإغلاق الاسرائيلي على صحة سكان القطاع النفسية والتحديات التي يواجهها المعالجون والمعالجات كونهم يعيشون أيضًا ذات الواقع في غزة.

ما يتبع هو ملخص ما طرح في اللقاء. 

معزولون تحت الإغلاق

شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في عدد السكان في القطاع الذين يتوجهون لطلب مساعدة نفسيّة. وفقًا لأبحاث مختلفة، ما بين 15٪ – 30٪ من الاشخاص المعرضين لظروف معيشية تشبه تلك التي في غزة، يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).

"هذا يعني أن هناك ما لا يقل عن 300 ألف شخص في غزة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، وربما أكثر من ذلك بكثير" يقول قصي أبو عودة، مدير دائرة العلاقات الخارجية وتنمية الموارد في برنامج غزة للصحة النفسية.

في الصورة: قصي أبو عودة، مدير دائرة العلاقات الخارجية وتنمية الموارد في برنامج غزة للصحة النفسية

إحدى التأثيرات الرئيسية للإغلاق الإسرائيلي هي انتشار الفقر وارتفاع معدل البطالة في غزة. يؤدي الوضع الاقتصادي الصعب إلى زيادة الضغط النفسي عند السكان.

تؤكد ختام أبو شوارب، أخصائية اجتماعية في برنامج غزة للصحة النفسية، على تأثير الضائقة الاقتصادية المباشر على الحالة النفسية لدى سكان القطاع. "التقييدات التي تفرضها إسرائيل على حركة البضائع وامكانيات الوصول إلى المواد الخام المختلفة لا تؤدي إلى انهيار صناعات كاملة فحسب، بل تؤدي أيضًا إلى ارتفاع الأسعار داخل القطاع، الأمر الذي يقوض بشكل كبير الاستقرار النفسي للسكان".

"يؤدي استمرار الضغط النفسي إلى اضطرابات قلق شديدة وإلى تدهور في جودة الحياة، وفي غزة جودة الحياة بعيدة اصلًا عن المعايير المقبولة دوليًا" يقول أسامة فرينة، أخصائي نفسي في برنامج غزة للصحة النفسية، ويضيف: "تأخذ الضغوطات والاضرابات النفسية شكل معاناة وألم جسدي أحيانًا، كما ونرى أن الاحباطات الحياتية المستمرة تؤدي الى حالات اكتئاب صعب وحتى الانتحار".

في الصورة: أسامة فرينة، أخصائي نفسي في برنامج غزة للصحة النفسية

"عندما نتحدث عن الاكتئاب الذي يعاني منه الفلسطينيون في غزة لا يمكننا التطرق اليه بحسب معناه التقليدي المقبول" يقول حسن زيادة، أخصائي نفسي في برنامج غزة للصحة النفسية.

"الاكتئاب الفلسطيني مختلف. يعيش المجتمع في غزة حالة صدمة وإرهاقٍ متواصلة. الإغلاق والتقييدات التي تفرضها إسرائيل على الحركة في غزة تؤثر على الجميع دون استثناء. الشعور السائد بين سكان قطاع غزة هو العجز وانعدام الأمل. هذا الوضع لم يأتِ من عدم، بل هو نتاج عملية مخططة تهدف إلى اضعاف حصانة الفرد والمجتمع في غزة".

يصف مختصي الصحة النفسية الحياة تحت الإغلاق على أنها تجربة إرهاق مستمرة تثير مشاعر حادة من الإحباط والعجز.

"تفقد السيطرة على حياتك لأنك لا تستطيع اتخاذ أي قرار يتعلق بك"، يفسر زيادة. "تصبح الحياة مثل علاقة السجين مع السجان الذي يحمل مفاتيح الزنزانة. السجان هو الوحيد الذي يمكنه أن يقرر ما إذا كان سيسمح لك بمغادرة الزنزانة أو دخولها، ما إذا كان بإمكانك تلقي علاج طبي أو زيارة عائلتك. كل ما يستطيع السجين فعله هو الانتظار. بمرور الوقت تبدأ هذه المشاعر بالتأثير على دافع الشخص حتى للمحاولة. ففشل كل المحاولات يؤدي إلى فقدان الامل".

في واقع الحياة في غزة، يتمثل الارتباط التكافلي بين الجسدي والنفسي أيضًا في زيادة الامراض الجسدية. يوضح زيادة أنه "عندما نلاحظ ظهور أمراض مثل السكري وضغط الدم لدى الشباب في أواخر العشرينيات من عمرهم، لا يمكننا الا أن نربط هذه الظاهرة بالحالة النفسية الصعبة التي يعيشها السكان".

"إنها حلقة مفرغة: النفسي يؤثر على الجسدي، والجسدي يؤثر على النفسي. والنتيجة النهائية هي الاكتئاب واليأس".

في الصورة: حسن زيادة، أخصائي نفسي في برنامج غزة للصحة النفسية

لا هدوء في غزة

إلى جانب المعاناة اليومية تحت الإغلاق، يؤدي العدوان العسكري الإسرائيلي المتكرر إلى عواقب نفسية وخيمة لدى سكان قطاع غزة. "تؤدي الحروب التي لا نهاية لها إلى تفاقم الوضع،" يقول فرينة، "يعيش السكان في غزة في خوف دائم من اندلاع حرب أخرى".

تؤكد عبير جمعة، أخصائية نفسية في Mental Health and Psychosocial Support Network، أنه من المهم التمييز بين التوتر طويل الأمد، مثل التوتر الناجم عن الإغلاق المستمر، وبين التوتر قصير المدى، الذي يحدث أساسًا في أوقات الحرب.

التوتر طويل الأمد هو نتيجة عقود من تقييدات إسرائيلية واسعة ومنهجية على الحركة. "مثلًا، الشباب الذين يحاولون الاندماج في سوق العمل دون نجاح، أو بنجاح جزئي، ويحملون مسؤولية اعالة عائلاتهم دون القدرة على الوقوف بها"، تقول جمعة، "هذا يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب واللامبالاة، التعب المزمن والإدمان على المخدرات والميول الانتحارية".

لهذا يضاف التوتر قصير الأمد الذي ينجم عادة خلال أوقات الحرب، ويتمثل بأعراض مثل الأرق، اضطرابات القلق واضطراب ما بعد الصدمة، الذعر الليلي والتبول الليلي خاصة لدى الأطفال.

"يعيش السكان، ومنهم أطفال، حالة قلق وجودي خلال الحرب – ’هل سأنجو؟’، ’من سيموت من عائلتي؟’، ’من سيبقى على قيد الحياة؟’" تضيف جمعة.

"عندما تبدأ هذه المخاوف بالهدوء قليلاً في غزة، تعود حالات الاكتئاب والتحديات النفسية النابعة من التوتر طويل الأمد التي باتت الحالة الطبيعية في القطاع".

في الصورة: عبير جمعة، أخصائية نفسية، غزة

تقول منال الهرباوي، أخصائية نفسية في برنامج غزة للصحة النفسية، أن "مظاهر الخوف والتوتر والقلق ازدادت بشكل كبير منذ الحرب في أيار 2021 التي استمرت 11 يومًا".
وتضيف، "نحن أيضًا، كطاقم مهني، نتأثر بالعدوان والدمار الذي ينجم عنه. فأنا أمٌ قبل أن أكون معالِجة. الشيء الرئيسي الذي شغلني خلال الحرب هو عدم قدرتي على حماية أطفالي ومنحهم الشعور بالأمان. أي أني لم أستطع منح الشعور بالأمان لأقرب الناس لي بسبب الخطر الحقيقي الذي يداهمنا من كل اتجاه، دون مكان آمن نستطيع الهرب إليه. فهذا الأمر يتعلق بنا أيضًا وليس فقط بالمتعالجين الذين نعمل معهم في العيادات، فنحن أيضًا من سكان غزة ونواجه نفس الصعوبات".

تستحضر الهرباوي حالة واجهتها مؤخرًا – شاب أصيب أثناء الحرب وأدمن على المخدرات، "قال لي ’أنا مدمن وأتعاطى المخدرات بانتظام. كيف يمكنك مساعدتي؟ ما الذي بإمكانك فعله؟’. يعاني هذا الشاب من آلام مزمنة ولا تسمح له إسرائيل بمغادرة غزة للخضوع للجراحة التي يحتاجها. البلاتين الذي وضعوه في جسده لا يساعده. لا يعرف ما الذي سيحدث له وما إذا كان سيتمكن من المشي مرة أخرى، أو ما إذا كان الألم سيزول. وأنا كمعالجة نفسية أعرف أن التحديات النفسية التي يعاني منها متعلقة بشكل مباشر بحالته الجسدية، ولا سيطرة لي على تحسن وضعه الطبي وإتاحة العلاج له. فكيف يمكن تقديم المساعدة النفسية الأمثل لشخص في هذه الحالة؟"

"ما يمكنك القول لمتعالَج مشكلته هي أنه لا يجد مصدر رزق وبالتالي يعاني من الاكتئاب والقلق، وأنت تعلم أنه مقيّد ولا يستطيع تحسين حالته؟ هل ستنصحه بممارسة الاسترخاء والتأمل؟ أن يتنفس بعمق؟ فهو سيعود إلى بيته في نهاية اليوم دون أن يجد مصدر رزق. محاولة إقناعه باستخدام تقنيات لن تغيّر هذا الواقع تبدو وكأنها تلاعب".

في الصورة: د. إياد الكرنز، مدير جمعية "نجوم الأمل" في غزة. قام بإدارة وتوجيه حلقة النقاش مع المختصين/ات.

يعملون رغم التقييدات

نظام التصاريح الضيق الذي تفرضه إسرائيل بالكاد يسمح بمغادرة غزة بهدف التدريبات المهنيّة. يفيد أخصائيو الصحة النفسية أن التقييدات المفروضة على الحركة تصعّب عليهم توسيع المعرفة المهنية في مجالات عملهم.

"في الماضي كانت هناك فرص أكثر لبناء علاقات مهنية مع مؤسسات أخرى وكان التعاون مع المؤسسات والمنظمات خارج القطاع ممكناً"، يشير فرينة. يضيف رمضان الحلو، مدير برنامج العقل والجسم، أنه "في الماضي كانت هناك أنشطة وندوات وورش عمل تدريبية خاصة يمكننا حضورها، لكن اليوم من النادر أن يكون للمعالجين علاقات خارج غزة".

في الصورة: سلمى سويركي، مديرة الحالات في مركز شؤون المرأة في غزة

يقول الحلو أن إجازات النقاهة والاجتماعات مع الزملاء خارج قطاع غزة قادرة على تعزيز الحصانة النفسية للمعالجين والمعالجات وحمايتهم من الإرهاق، لكن العديد من المعالجين والمعالجات من سكان القطاع غير قادرين على الخروج لإجازات نقاهة بسبب التقييدات على الحركة.

"نفوت فرصًا ممتازة لتطوير قدراتنا ومهاراتنا، على المستويين الشخصي والمؤسساتي"، يقول زيادة. "تؤدي التقييدات المفروضة على الحركة إلى تضييق الآفاق وتخلق لدى المعالِجين والمعالجات شعورًا صعبًا بأنهم عالقون في مكانهم".

رغم العقبات التي تفرضها السياسات الإسرائيلية أمامهم، يعمل المختصون والمختصات في العلاج على مدار الساعة لتوفير الخدمات النفسية لمن يحتاجها.
"يقدم مركز الصحة النفسية المجتمعية في غزة مجموعة متنوعة من الخدمات والعلاج النفسي المهني لجميع السكان، من الرجال والنساء والأطفال،" تقول أبو شوارب، "نتلقى توجهات من المدارس والجامعات والمستشفيات وندير خط مساعدة يمكن الاتصال به وتلقي المساعدة. نقدم تدريبات لمختلف المؤسسات ونعمل مع مختصين من مجالات التدريس والطب والقانون. كما ونعمل على نشر الوعي لمسألة الصحة النفسية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وورشات عمل مفتوحة للجمهور العام".
استنزاف الأمل

في ظل انعدام أي تغيير في الأفق، يتعامل المعالِجين والمعالجات بأنفسهم مع تحديات شديدة كون الأدوات العلاجية المتاحة لهم محدودة التأثير في ظل واقع الإغلاق. "الأخصائيين والأخصائيات هم جزء من النسيج الكلي للمجتمع في غزة ولهذا فهم غير منفصلين عن متلقي الخدمات"، تقول نداء مرتجى، أخصائية نفسية من قطاع غزة، "قد يكون هذا مفهومًا ضمنًا، لكننا نعاني كمعالِجين ومعالجات – نخشى من الإغلاق والحروب، نخاف دائمًا من أننا غير قادرون على تقديم المساعد الكافية مما يزيد الضغط النفسي علينا".

"نقوم بتوظيف المزيد والمزيد من المختصين بمجال الصحة النفسية، لكن هناك دائما نقص"، تقول سلمى السويركي، مديرة الحالة في مركز شؤون المرأة. "حتى أنا، بصفتي مديرة حالات، فقدت بعد الحرب صوتي الطبيعي وبدأت أتحدث منذ ذلك الوقت بصوت مبحوح للغاية. ليس لدي الوقت والفراغ لأهتم بصحتي النفسية".
في الصورة: سلمى سويركي، مديرة الحالات في مركز شؤون المرأة في غزة

يبدو لنا أحيانًا أن وضع الحياة في غزة هو واقع غير قابل للتغيير. بالرغم أن الخدمات بالغة الأهمية التي يقدمها المعالجين والمعالجات في غزة قد تكون الفرق بين الحياة والموت لمتلقي العلاج، فإن سياسات الإغلاق الإسرائيلية المستمرة والهجمات العسكرية المتكررة تجدد الصدمات باستمرار وتترك وصمتها على جيل فلسطيني كامل ممن ولدوا في الإغلاق وعاشوا طوال حياتهم في ظله.

ضائقة الحياة في غزة اليوم ليست بأمر مُنزَل أو حقيقة ثابتة غير قابلة للتغير.
"من الممكن تغيير حالة الصحة النفسية في قطاع غزة بشكل كبير إذا اتخذ الاحتلال الإسرائيلي قرارًا سياسيًا واحدًا: رفع الإغلاق والسماح بحرية الحركة"، يقول زيادة، "سيكون لرفع الإغلاق تأثيرًا إيجابياً كبيرًا على السكان، سيدفع بهم للتخطيط والتطّور وسيبعث بهم الأمل".

تصوير: اكتيف ستيلز / أمجد الفيّومي / مجدي فتحي / محمد زعنون

شاركوا

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on email

وفقًا لما يقتضيه القانون، تفخر جمعية "چيشاه – مسلك" بمشاركة أنه نتيجة لشراكاتنا مع دول ومنظمات دولية التي تدعم عملنا لتعزيز حقوق الإنسان، فإن غالبية تمويلنا يأتي من "جهات حكومية أجنبية".

כלי נגישות