إن المنظومة البيروقراطية التي طوّرتها إسرائيل لغرض الإدارة الجارية للسكان الفلسطينيين، تُخضع ملايين الناس لقرارات تتخذها سلطات الجيش وأذرع الأمن. هذا نظام تنكيل مكشوف ومخادع؛ وغالبًا ما لا يصل إلى العناوين ولا يشدّ انتباه الجمهور في إسرائيل وفي العالم، لكنه يتغلغل في جميع تفاصيل الحياة اليومية لمن يعيشون تحت الاحتلال، يمسّ بحقوقهم الأساسية وبقدرتهم على تلبية احتياجات أساسية، ناهيك عن المساس بإمكانية تحقيقهم طموحات شخصية.
تحت سطوة نظام التصاريح القاسي والمرعب الذي تديره إسرائيل، هناك ظروف معدودة ومحدودة على نحو خاص يمكن فيها لسكان قطاع غزة تقديم طلب تصريح للتنقّل. المعايير التي تحددها إسرائيل لتنقل الناس عبر معبر إيرز، الواقع تحت سيطرتها، تحرم مسبقًا الغالبية الساحقة للسكان في غزة من الإمكانية الأساسية للتنقل. الحالات المعدودة التي تسمح فيها إسرائيل بتقديم طلب لتلقي تصريح، تعرّفها كـ ”إنسانية واستثنائية“: وهي تشمل أساسًا الخروج من غزة لزيارة أقارب، من الدرجة الأولى فقط، يعيشون في إسرائيل، الضفة الغربية أو خارج البلاد، في حال كانوا يحتضرون، متوفّين أو سيتزوجون؛ الخروج للتعليم والدراسة العليا خارج البلاد؛ تلقّي علاج طبي من شأنه إنقاذ الحياة وليس متوفرًا في القطاع؛ لأغراض التجارة، ومؤخرًا للعمل اليدوي في قطاعات الزراعة والبناء أيضًا.
حتى بالنسبة للقلائل جدًا ممن يستوفون تلك المعايير، فإن إجراء تقديم الطلبات معقد وأحيانًا عديم الاحتمالات. على نحوٍ روتيني، هناك عدد لانهائي من الطلبات التي لا تحظى بردّ من السلطات في إسرائيل، أو أن الرد يتوفّر في اللحظة الأخيرة فقط أو بعد أن يكون موعد الخروج المطلوب قد مرّ وانقضى. وتفرض السلطات في إسرائيل على ألاف مقدمي الطلبات ”موانع أمنية“ يتضح في حالات كثيرة منها أنها عشوائية وتفتقر إلى أي أساس. مرة بعد الأخرى، تستغل السلطات الإسرائيلية تعلّق سكان غزة بالتصاريح كأداة محظورة للابتزاز مقابل معلومات عن جيرانهم أو أقربائهم، أو من أجل إجبار فلسطينيين، وخصوصًا فلسطينيات، عناوينهم مسجلة في الضفة الغربية ويعيشون في غزة، على التنازل عن مكانتهم في الضفة، وهو ما يعرّفه القانون الدولي كـ”نقل قسري” ويعتبر جريمة حرب.
هذه الممارسات هي جزء من النظام الذي تمنع فيه إسرائيل عن الفلسطينيين حقهم في حرية التنقل، ومعه إمكانية عيش حياة تشمل الاختيار.
تضم مجموعة شهادات تنشرها منظمة ”نكسر الصمت“، شهادات لجنود وجنديات إسرائيليين من الإدارة المدنية، وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، ومديرية التنسيق والارتباط، يروون فيها عن نظام التصاريح من وجهة نظرهم. إن العنف الذي ينعكس من شهاداتهم يصعب تصويره أو تعداده، لكنه واضح – إنه يظهر من التعامل المستهتر مع الناس الذين يرتبط مستقبلهم بأكمله بردّ على طلب التصريح، من استخدام إسرائيل لسيطرتها من أجل ممارسة ضغط وعقوبات على أشخاص بسبب أفعال لا تربطهم بها أية صلة، ومن التنصّل المنهجي من المسؤولية عن سلامة بشر يعيشون تحت احتلال اسرائيل.
(أ)، (س)، (ك)، و (م)، هم أربعة فلسطينيين وفلسطينيات ساعدتهم ”چيشاه–مسلك“ على التنقل من القطاع وإليه من أجل القيام بحاجات ملحّة وأساسية. الشهادات التي قدموها لـ”چيشاه–مسلك“ توفر إطلالة على الجانب الآخر للقصة، على من يتضررون مباشرة من سلوك السلطات في إسرائيل ومن العنف البيروقراطي الذي تمارسه على نحو دائم. إن أقوالهم هي تذكير بالطرق التي أثر فيها نظام التصاريح وممارسوه الإسرائيليون على حياة الملايين.
فيما يلي شهاداتهم.
(أ)
قال لي “سنسمح لك بزيارة عائلتك بشرط واحد: أن تتنازلي عن عنوانك وعنوان أولادك المسجل في الضفة“
(أ) فلسطينية تبلغ من العمر 28 عامًا، ولدت في الضفة الغربية، انتقلت إلى قطاع غزة قبل ثماني سنوات بعد زواجها من شاب من سكان غزة. لا تسمح إسرائيل بلم شمل العائلات الفلسطينية في الضفة الغربية أو داخل اسرائيل. لم ترد إسرائيل على طلب (أ) الذي قدمته في نهاية 2021 للخروج من غزة مع طفليها الصغيرين لزيارة والدتها المريضة في الضفة الغربية. بعد تدخل ”چيشاه – مسلك“، رُفض طلبها بادعاء ”الرفض الأمني“. بعد أن قدمنا في ”چيشاه – مسلك“ التماسًا نيابة عنها، ألغي الرفض وتمت الموافقة على خروجها من القطاع. عندما وصلت (أ) إلى معبر إيرز مع أطفالها، اشترط الممثل الإسرائيلي على المعبر خروجها بالتوقيع على تنازلها عن مكانتها كمقيمة في الضفة الغربية، وعن حقها في العودة والسكن هناك في المستقبل. هذه الممارسة التي تتبعها السلطات الإسرائيلية، المعروفة أيضًا من حالات أخرى وصلت إلى ”چيشاه – مسلك“، قد تعتبر ”ترحيلًا قسريًا“ وهو محظور بموجب القانون الدولي.
تمكنت (أ) بمساعدة ”چيشاه – مسلك“ من ممارسة حقها في مغادرة غزة عبر معبر إيرز والوصول إلى الضفة الغربية دون التنازل عن إقامتها في الضفة الغربية. لم يتلق طلبها الذي قدمته مؤخرًا لمغادرة غزة لحضور حفل زفاف شقيقتها في الضفة الغربية ردًا من إسرائيل.
منذ فترة طويلة وأنا أريد زيارة عائلتي، من حقي أن أزورهم وأن ألتقي بهم. عندما توجهت إلى لجنة الشؤون المدنية الفلسطينية في غزة [جهة تابعة للسلطة الفلسطينية في غزة مسؤولة عن نقل طلبات سكان غزة لتصاريح العبور إلى الجانب الإسرائيلي] قالوا لي إنني لا أستطيع التقدم لزيارة عائلتي ”دون سبب“، أي أني بحاجة إلى إثبات مكتوب على أنه هناك ”حالة خاصة“. أمي مريضة بالقلب وساء حالها في تشرين الثاني 2021 ودخلت المستشفى. تعتبَر هذه ’حالة خاصة’ واعتقدت أنهم سيسمحون لي بزيارتها. تقدمت بطلب تصريح لزيارتها لكني لم أتلق أي رد رغم أني أرفقت تقريرًا طبيًا يثبت أنها مريضة وفي المستشفى. تقدمت بطلب آخر وأنتم [”چيشاه – مسلك“] تدخلتم أيضًا أمام إسرائيل، لكني تلقيت ردًا بالرفض وقالوا لي أن ’الرفض أمني’. فاجأني هذا الرد كثيرًا، ما السبب؟ هل هي جريمة أن ألتقي بأهلي الذين عشت معهم 21 عامًا؟ أليس عيشنا في مدن مختلفة يكفي؟ لم ألتقِ بهم منذ خمس سنوات.
ثم قدمنا الالتماس ضد رفض الطلب بحجة ’المنع الأمني’.
أخبروني في لجنة الشؤون المدنية [أن الإسرائيليين يقولون] أن علي إجراء مقابلة أمنية لمعرفة سبب الرفض. ذهبت إلى هناك [إلى الجانب الإسرائيلي في معبر إيرز] وكلي ثقة بنفسي لأني أعرف أني لم أفعل شيئًا، فلمَ أكون مرفوضة أمنيًا؟ قلت لنفسي أني ذاهبة إلى هناك واثقة بنفسي ولست خائفة وأن الرفض الأمني هو مجرد حجة لمنعي من زيارة عائلتي. خرجت الساعة 6:30 صباحًا وانتظرت [على المعبر] حتى الساعة 15:00 حتى يدخلوني [إلى الجانب الإسرائيلي] للمقابلة. انتظرت وانتظرت، وعندما تنتظرين مطولًا بمفردك يبدأ الإحباط بالتسلل إليك. وعندما دخلت، لا أعرف، أثار الأمر لدي شعورًا بالخوف. لم يسمحوا لي بالدخول إلى الغرفة، وقف أربعة حولي – الضابط الذي كان يستجوبني ومعه مساعدة وجنديان. لم يكن هناك مكان للجلوس حتى. أصريت وقلت أن ليس هناك ما يبرر الرفض الأمني، وقلت لهم أني أريد كرسيًا لأني لا أستطيع الوقوف. طرحوا عليّ الكثير من الأسئلة، أردت أن أعرف ما هو السبب وراء “المنع الأمني“، هل جريمتي هي أني أريد زيارة أمي المريضة؟ أني مشتاقة لعائلتي وقلقة عليهم؟ ثم قالوا لي ”يمكنك الذهاب وسنتخذ القرار في غضون أسبوعين اذا كنت مؤهلة لزيارة عائلتك“. لا يمكنني أن أصف المتاعب والصعاب التي واجهتها معهم.
في النهاية وافقوا على طلبك. ماذا حصل في معبر إيرز؟
نعم. كان هذا في كانون الثاني. اتصل [ممثلو لجنة الشؤون المدنية] بي وقالوا أن لي تنسيق في إيرز. فهمت أنهم سيتيحون لي أن أخرج للزيارة، سعدت كثيرًا! لكن عندما وصلت إلى معبر إيرز كان هناك الكثير من الناس، لاحظت أن الجميع يعبر إلا أنا. كان أطفالي معي وعانوا هم أيضًا، انت تعلمين كم صعب الاعتناء بالأولاد لوحدك. ثم جاء الضابط وقال لي ”سنسمح لك بزيارة عائلتك بشرط واحد: أن تتنازلي عن عنوانك وعنوان أولادك [في سجل السكان الفلسطيني] المسجل في الضفة وتسجيله في غزة“. سألته لماذا وأجابني: ”هذا هو القانون“. كنت منهكة، كنت في المعبر من الساعة 09:00 وفي الساعة 16:30 فقط نادوا اسمي وقالوا: ”عليك العودة إلى غزة لتقديم طلب [لتغيير العنونان] والعودة في اليوم التالي“. كان تصريحي ساري المفعول لخمسة أيام، فخسرت اليوم الأول. كان الجو باردًا جدًا وعانى أطفالي أيضًا. قلت للضابط، أي بعد كل هذه الصعاب للوصول إلى هنا، وبعد أن اعتقدت أني سأخرج مع أولادي لزيارة عائلتي، تريدون أن أوقع على تعهد بتغيير عنواني؟ قلت للضابط أنه لا يمكنني العودة من هنا [إلى غزة]، فأجابني: “حسنًا، سنتيح لك العبور [إلى الضفة الغربية] بشرط ألا تعودي إلى غزة“. فقلت لنفسي، مع أني مشتاقة جدًا لعائلتي وأريد زيارتهم لكني مجبرة على العودة إلى بيتي [في غزة] حيث حياتي الآن. قال لي بعدها: “يمكنك تغيير العنوان عندما تكونين في الخليل ثم سيكون بإمكانك العودة إلى غزة“. جاريته في الأمر، قلت لنفسي المهم أن أقدر على دخول الضفة لزيارة عائلتي والله كبير. أشكركم على مساعدتي لزيارة عائلتي والعودة إلى غزة دون أن أضطر لتغيير عنواني. مع أن هذا حقي، إلا أني كنت بحاجة لأحد يساعدني ويقف جانبي لتحقيقه.
كيف كان لقائك مع العائلة؟
لم يكن ذلك كافيًا، بالكاد أعطوني أربعة أيام بعد كل المشاكل التي سببوها لي. لم أمضي الوقت مع عائلتي كما كنت أريد. أملت أن يسمحوا لي بحضور حفل زفاف أختي مع أولادي، كان من المفترض أن تتزوج أختي في نيسان، لكن عائلتي قررت تأجيل العرس بشهر بسبب عدم استجابة [إسرائيل] لطلبي لتصريح على أمل أن نستطيع الحضور. انتظرت حتى اللحظة الأخيرة، ولكن للأسف الشديد لم أتلقَّ الرد وضيعت أنا والأطفال فرصة اللقاء بعائلتي لبضعة أيام أخرى والاحتفال معهم.
(س)
لم يستجيبوا لطلبي لدخول غزة للمشاركة في عزاء لأنه كتب على شهادة الوفاة “دولة فلسطين“
في بداية عام 2022، توجهت (س)، فلسطينية تحمل المواطنة الإسرائيلية تبلغ من العمر 72 عامًا، بطلب لدخول قطاع غزة لحضور جنازة أخيها المسن. بعد أن لم تحصل على رد لطلبها، توجهنا في ”چيشاه – مسلك“ نيابة عن (س) لمديرية التنسيق والارتباط – غزة التي ردت على توجهاتنا بجواب مقتضب: ”أوراقها ليست صالحة“. هذه الردود تصل كثيرًا من دون التوضيح ما ”ليس صالحًا“ في الاوراق، بينما يبقى الطلب معلقًا دون رد رسمي. رأينا من خلال تجربتنا الميدانية أن السلطات الإسرائيلية ترفض تكرارًا البت في توجهات، خلافًا لالتزامها القانوني، بذريعة أن المستندات المرفقة للطلبات، مثل التقارير الطبية أو شهادات الوفاة، كتب عليها “دولة فلسطين“. فقط بعد محو عبارة ”دولة فلسطين“ من الأوراق، وافقت إسرائيل على طلب (س). تعكس قصة (س) الاستغلال والتلاعب السياسي الإسرائيلي على حساب من يعتمدون عليها للحصول على حقوقهم الأساسية.
أصلي من غزة. وحتى زيارتي هناك في شباط، لم أرَ عائلتي منذ 15 عامًا. كان والدّي وإخوتي الثلاثة يعيشون في غزة، لكن لم يتبق لي الآن سوى أخ واحد وأولاده. حاولت زيارة عائلتي في غزة عدة مرات بلا جدوى. تقدمت ابنتي بطلب تصريح نيابة عني في الماضي، كما تقدم أبناء أخوتي [في غزة] بطلب تصريح لي، لكن [إسرائيل] لم توافق على أي منها. توفي أخي الثاني في كانون الثاني [2022]، و…تعرفين ما حدث، أردت زيارته قبل وفاته، كان مريضًا جدًا. تقدمت بطلب لكني لم أتلقَّ ردّ. تقدمت بطلب آخر بعد وفاته ولم أحصل [على ردّ] ايضًا، ساعدتموني وتمكنت عندها أن أزور قبره. لم أستطع رؤية والدتي وأختي أيضًا قبل وفاتهما. لم ترد [إسرائيل] على طلباتي لتصريح. لم تخبرني [العائلة في القطاع] عن وفاتهما حتى لا أحزن [لأنه لم يكن بإمكاني حضور جنازاتهما].
هل أخبروك لمَ لم يوافقوا على طلبات التصريح؟
فهمت منك أنهم لم يستجيبوا لطلبي لدخول غزة للمشاركة في عزاء لأنه كُتب على شهادة الوفاة ”دولة فلسطين“. هم [الجانب الإسرائيلي] يرفضون الأمر، لكن ما علاقتي أنا؟ لماذا؟ نحن نريد السلام. اعتقدت أنهم يرفضون وانتهى الأمر، كان هذا صعبًا وحزينًا للغاية. حصلت على تصريح في شباط بعد أن ساعدتموني، ودخلت غزة واستطعت زيارة أخي الثالث الذي ما زال على قيد الحياة. كانت عائلتي في غزة تقول لي ”لن تتمكني من القدوم إلا بعد وفاته [أخيك الثالث]“، أصبح الأمر نكتة حزينة.
كيف كانت زيارتك؟
لم أواجه أي مشاكل عندما ذهبت إلى هناك هذه المرة. رافقني إبني إلى معبر [إيرز] لمساعدتي. أخذ [الإسرائيليون] بطاقة هويته وسمحوا له بالدخول معي حتى مررت [إلى الجانب الفلسطيني من المعبر] من ثم عاد ابني إلى بيته. كما وساعدوني على الجانب الآخر من معبر إيرز أيضًا، سألوني عن سبب زيارتي فأخبرتهم أن أخي قد توفي وساعدوني في الوصول إلى السيارة مما سهّل عليّ. أتمنى لو كان الأمر بهذه السهولة دائمًا وأن يتحسن الوضع. جاءت امرأة من اللد لزيارتي يوم الجمعة وقالت إنهم بصدد فتح الطريق إلى غزة وأنه سيكون بإمكاننا زيارتها بحرية. قلت لها ”يا ريت، يا لها من أخبار مفرحة“، لكنها قالت أن الطريق لن تكون مفتوحة للجميع، للمسنين مثلنا فقط. لكنها للأسف مجرد شائعات، أتمنى لو كان الأمر صحيحًا. أريد السفر إلى غزة مرة أخرى، لكن بمناسبة سعيدة إن شاء الله. لقد استمتعت كثيرا بالزيارة هناك. لم أكن هناك منذ فترة طويلة، كل شيء مختلف، استغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى عثرت على قبور والدتي وأختي. كنت هناك لأيام قليلة حسبما سمح لي التصريح وعدت على الفور. حزنت لأني لم أتمكن من مقابلتهم قبل وفاتهم. لا أعرف لماذا لم يوافقوا على طلباتي السابقة، كنت أرسل الطلبات دائمًا دون أن أتلقى أي رد.
(م)
لمَ سحبوا مني التصريح؟! لا أعرف. عدت إلى بيتي ودخلت الفراش ولم أخرج منه لمدة أربعة أيام
(م)58 عاما، أب لستة أبناء بالغين ويعمل كطيَّان. بدأت إسرائيل في نهاية العام 2014 بالسماح بخروج قلائل من القطاع يحملون تصريح ”تاجر“. قسم مِن مَن حمل تصريح ”تاجر“ استعملوا التصاريح بهدف العمل في إسرائيل. شددت إسرائيل الإغلاق على قطاع غزة ابتداءً من آذار2020 وخلال غالبية عام 2021 بسبب فيروس الكورونا. “إغلاق كورونا” على القطاع فرض بطريقة فاقت بكثير التشديدات التي فرضتها إسرائيل في ظل الوباء على حرية الحركة من الضفة الغربية وداخل إسرائيل، مما منع الكثير من العمال من غزة اللذين يحملون تصريح “تاجر”، بمن فيهم (م)، من الخروج للعمل داخل إسرائيل. في آب2021، عادت إسرائيل وسمحت لحاملي تصريح “تاجر“، الكثيرون منهم عمال، بمغادرة غزة. لكن وفي الوقت الذي وافقت فيه إسرائيل على طلبات (م) للحصول على تصريح، ألغي تصريحه عند وصوله إلى الجانب الإسرائيلي لمعبر إيرز بحجة ’أسباب أمنية‘ غير واضحة. في التماس قدمته “چيشاة-مسلك” مطالبة أن تسمح إسرائيل بخروجه، ادّعى ممثلوها في المحكمة انه تم قبول طلبات (م) مرة تلو الأخرى عن طريق الخطأ.
بدأت العمل في إسرائيل قبل 45 عامًا، عندما كان عمري 13 عامًا. كنت أعود إلى غزة في الأعياد والعطَل فقط. عندما لا أجد عملًا في البناء أحاول إيجاد عمل في حقول الذرة في إسرائيل أو في غزة. تعلمت العبرية وأتحدثها جيدًا. سمعت في نهاية العام 2018 أنهم سمحوا مجددًا بالخروج من القطاع لمن يحمل تصريح “تاجر“. هذا ما فعله الجميع. تقدمت في كانون الثاني 2019 بطلب للحصول على تصريح، وتلقيت بعد مرور تسعة أيام تصريحًا لمدة شهر، ثم تقدمت بطلب مرة أخرى بعد ذلك ووافقوا أيضًا، وهكذا أربع أو خمس مرات. عملت في إسرائيل قرابة عام ثم بدأت جائحة الكورونا ومنعت إسرائيل الخروج من غزة. تقدمت بطلب لتجديد التصريح في شباط 2021 وتلقيت الموافقة عليه في آب [2021]. أنا مسؤول عن إعالة الأسرة ومساعدة أولادي وأسرهم، لأن لا أحد منهم قادر على إيجاد عمل في القطاع، بما في ذلك زوجات أبنائي مع أنهن خريجات جامعات. بعد انتظار عام ونصف للعودة للعمل في إسرائيل بدأت بالاستعداد للخروج من القطاع، لكن إسرائيل لا تسمح لي بذلك.
حصلت على تصريح يسمح لك بالخروج من القطاع والعمل في إسرائيل. كيف تمنعك اسرائيل من الخروج؟
عندما وصلت معبر إيرز [في آب 2021] قالت لي الموظفة أن أعود إلى الخلف وأن أجلس وأنتظر. بعد أن انتظرت ساعتين أخبرتني أنهم سيسحبون مني التصريح لأسباب أمنية. فاجأني هذا كثيرًا، فما علاقي بالقضايا الأمنية؟! لم يسبق لي أن واجهت أي مشاكل ولم أؤذِ أحدًا في حياتي، فلماذا سحبوا مني التصريح؟ لا أعرف. عدت إلى بيتي ودخلت الفراش ولم أخرج منه لمدة أربعة أيام. ارتفعت وتيرة نبضات قلبي، وكانت لدي أعراض لورم بالمرارة ومشاكل أخرى. تحسن وضعي قليلًا بعد فترة وتوجهت للجنة الشؤون المدنية [لجنة الشؤون المدنية الفلسطينية، هي هيئة تابعة للسلطة الفلسطينية في غزة، مسؤولة عن نقل طلبات التصاريح من سكان غزة لإسرائيل]، فحصوا الأمر في اللجنة وأخبروني أنه ليس هناك أي منع أمني وأنه بإمكاني تقديم طلبًا لتصريح جديد. تلقيت موافقة على الطلب بعد شهرين. توجهت إلى [معبر] إيرز للمرة الثانية في تشرين الثاني [2021] وقالت لي الموظفة مرة أخرى أنهم سيقومون بسحب التصريح. حصلت في بداية العام [2022] على تصريح آخر لمدة ستة أشهر، لكنهم سحبوا مني التصريح عندما وصلت إلى معبر إيرز. كنت مرهقًا تمامًا في هذه المرحلة، توجهت إليكم وقدمت طلبًا جديدًا كما أوصيتموني. تلقيت تصريحًا بعد شهرين ونصف وأنتم فحصتم مع الجانب الإسرائيلي فيما إذا كانوا سيسمحون لي بالخروج هذه المرة، أجابوكم بعد عدة أسابيع أن التصريح جيد وساري المفعول. لكن، في نهاية نيسان، وصلت إلى المعبر وسحبوه مني للمرة الرابعة! لم أوافق على المغادرة يومها دون أن يوضحوا لي الأسباب.
وما الذي حدث بعد ذلك؟
طالبتهم بالتحدث مع شخص من الأمن الإسرائيلي (الشاباك) الذي وصل بعد أربع ساعات ونصف. سألته لماذا يمنحوني التصريح ثم يسحبوه؟ قال لي ”أنت إنسان طيب ولا تشوبك شائبة. ليست المشكلة لديك، بل بالناس من حولك“. سألته من تقصد؟ أولادي؟ قال أن لا علاقة لهم بالأمر. سألته إذا كنت في منطقة ما لم يكن علي أن أتواجد بها، ربما تحدثت مع أحد عن طريق الخطأ؟ أجابني بالنفي. سألني لماذا لم يتزوج ابني الصغير بعد،أخبرته بالحقيقة، أنّي لا أملك ما يكفي لمساعدته اقتصاديًا. فأجابني أنه يأمل أن تكون الأيام المقبلة أفضل، وأن لا شيء ضدّي وأنه سيقوم بفحص الموضوع مع الضابط المسؤول عن منطقتي. يشبه الأمر أن يكون جارك متهمًا بسرقة سيارة وأن يتهموك أنت أيضًا لمجرد كونك جاره. استغرق الأمر طوال اليوم، كنت هناك [في معبر إيرز] من الساعة 06:30 إلى الساعة 16:00، وعندها فقط عدت إلى المنزل محبطًا تمامًا.
(ك)
الأصعب هو انعدام اليقين، حالة من القلق المتواصل
(ك) هو أخصائي نفسي، يعمل في مؤسسات المجتمع المدني في قطاع غزة، وهو أب لأربعة أطفال. نجح (ك) بالخروج من القطاع بضع مرات في إطار دراسته للدكتوراه في علم النفس خارج البلاد. لا تتيح إسرائيل للفلسطينيين الطيران عبر مطار بن غوريون إلا في حالات استثنائية وقليلة جدًا، وعوضًا عن ذلك تسمح لسكان غزة بحالات قليلة تقررها بنفسها بالعبور عن طريق معبر إيرز وبعدها بالعبور إلى الأردن عن طريق جسر الملك حسين (أللنبي) ومن هناك إلى وجهتهم خارج البلاد. قبل عامين ونصف تقريبًا، سافر (ك) لامتحان انهاء الدكتوراة خارج البلاد وعلِق هناك لمدة سبعة أشهر بسبب ”إغلاق الكورونا“ الذي فرضته إسرائيل في آذار 2020 وخلال معظم عام 2021. ”إغلاق الكورونا“ كان تشديد قاسٍ لتقييدات الحركة الصارمة أصلًا التي تفرضها اسرائيل على الحركة في المعابر. هذا التشديد ظل ساريًا لفترة طويلة حتى بعد رفع قيود الكورونا المفروضة على حركة التنقل في اسرائيل وبين إسرائيل والضفة الغربية أو خارج البلاد. منذ أيار 2020 وحتى تشرين الثاني من نفس العام، جمّدت السلطة الفلسطينيّة التنسيق المدني مع اسرائيل احتجاجًا على نيات إسرائيل لضم أجزاء من الضفة الغربية. إستغلت إسرائيل وقف التنسيق للتنصل من واجباتها والتزاماتها بحق الفلسطينيين سكان قطاع غزة. الكثير من الفلسطينيين، كما كان حال (ك)، علقوا خارج القطاع لأشهر من دون القدرة على العودة لعائلاتهم ولبيوتهم. استطاع (ك) أن يعود إلى عائلته بعد التماس قدمته مؤسسة ”چيشاه – مسلك“ طالبت به بالسماح بعودته عن طريق جسر الملك حسين ومعبر إيرز. يتحدث (ك) في شهادته عن التقييدات التي تفرضها إسرائيل على مسار الحركة عن طريق معبر إيرز وعن السفر من إيرز إلى جسر الملك حسين.
قبل عامين ونصف أردت الوصول إلى جامعة خارج البلاد من أجل انهاء دراستي للدكتوراه، وكنت متعلقًا بالعديد من الأمور المرتبط أحداها بالأخرى حتى أتمكن من السفر. هي “رزمة” كاملة، كل شيء فيها مرتبط بالآخر، وكل شيء فيها هو بمثابة مجازفة، لا تعرف ما إذا كنت ستنجح أو ما إذا سينهار كل شيء. أنت متعلق بالشروط [البيروقراطية] الإسرائيلية وكل الأمور الباقية مشتقة منها. على سبيل المثال، عليك أن ترفق للطلب [طلب التصريح الذي يخول (ك) من الوصول إلى خارج البلاد] تذكرة طيران سارية المفعول ليوم العبور وحتى يومين بعده. إذا لم تتلق الرد حتى موعد السفر، عليك تحديث المستندات مرة أخرى لتقديم طلب آخر وانتظار الرد، ثم عليك تغيير تاريخ الطائرة ودفع ثمن تغيير الموعد. وإذا أغلقت إسرائيل المعبر، كما فعلت خلال فترة الكورونا، عليك انتظار قرارها بفتحه مجددًا وإعادة السيرورة من البداية مع كل ما تطلب من إجراءات.
تكون في حالة توتر دائم، تسأل دومًا إلى متى عليك تأجيل موعد الطائرة آملًا ألا تضطر لتغييره أكثر من مرة لأن لذلك تكاليف باهظة. أصعب ما في الأمر هو انعدام اليقين، هذه حالة من القلق المتواصل. أنت منهك ماديًا ومرهق نفسيًا ولا سيطرة لك على وقتك وحتى إمكانية الاختيار ليست بيدك. لا تعرف حتى اللحظة الأخيرة متى ستقدر على توديع العائلة والأصدقاء. كل ما تفعله طوال اليوم هو الانتظار، ومع ذلك فأنت محظوظ لأن فرصة تقديم طلب [لإسرائيل] لتصريح مغادرة غزة غير متاحة للجميع. ولا يمكنك القول “طيب، سأخرج عن طريق رفح“، لأن السفر عن طريق رفح منوط بالتسجيل المسبق لقائمة انتظار والجواب على الطلب يكون بنفس يوم السفر، وحتى لو نجح الأمر، فإن الطريق [إلى مطار القاهرة] صعب ويستغرق يومين أو ثلاثة أيام.
حدثني عن الطريق نفسها، عن السفر خارج البلاد عن طريق جسر الملك حسين.
تبدأ المشاكل من قبل الرحلة نفسها، من مرحلة حزم الأمتعة، خاصة قبل السفر لفترة طويلة، لبضعة أسابيع أو أشهر. فممنوع العبور عن طريق معبر إيرز بحقائب صلبة لها عجلات، يسمح إدخال حقائب قماشية فقط. ممنوع اصطحاب مستلزمات يومية أساسية، مثل الشامبو ومزيل العرق وحتى شاحن الهاتف النقال. عليك شراء كل هذه الأمور بعد الوصول إلى وجهتك. هذه التقييدات مرهقة ومكلف أيضًا. سافرت قبل ثلاث سنوات [خلال سفر في إطار دراسة الدكتوراه] وتركت حاسوبي النقال في البيت بسبب المنع على اصطحاب الحواسيب عن طريق معبر إيرز واشتريت جهازًا جديدًا عند وصولي إلى الأردن. سمحوا لي بالعبور مع الحاسوب في المرة التي سبقتها، ولكن بتنسيق خاص، فتدبرت أمري.
أيضًا العودة إلى غزة إجراء بحد ذاته. عليك الحرص على أن تاريخ العودة إلى الأردن [ومن هنالك إلى جسر الملك حسين] يتطابق مع أيام عمل السفريات من الجسر إلى إيرز [هذه السفريات مباشرة، وهي طريقة التنقل الوحيدة المسموح بها للفلسطينيين التنقل بين معبر إيرز وجسر الملك حسين]. كان لدي تذكرة طائرة إلى الأردن لأحد أيام السبت، ولكن في هيئة الشؤون المدنية [هيئة تابعة للسلطة الفلسطينية في غزة مسؤولة عن نقل طلبات سكان غزة لتصاريح العبور إلى السلطات الإسرائيلية] أوضحوا لي أنني لن أستطيع دخول جسر الملك حسين من الأردن في اليوم التالي، كما أردت، لأنه من المسموح العبور في يوم عمل السفريات المباشرة فقط، والتي تنطلق يوم الاثنين. الأردن بلد مكلف وحسبت أن الطعام والفندق والمواصلات وكل ما أحتاجه سيكلفني ثلاثة أضعاف تكلفة تأجيل تذكرة الطيران، لذلك فضلت دفع ثمن تغيير موعد التذكرة. يجب حساب تكاليف السفرية أيضًا من الجسر إلى معبر إيرز التي قد تصل تكلفتها إلى حوالي 1000 شيكل، إن لم يكن من يشاركك بها.
ماذا حصل عندما حاولت العودة إلى بيتك؟
علقت خارج البلاد لعدة أشهر بعد أن أنهيت دراستي لأن إسرائيل أغلقت معبر إيرز أثناء الكورونا، بالإضافة إلى وقف التنسيق [بين السلطة الفلسطينية واسرائيل]. حين تواصلت مع الشؤون المدنية الفلسطينية شرحوا لي أنهم لا يستطيعون تنسيق عودتي وأن عليّ التواصل مع الجهات الإسرائيلي بشكل منفصل من أجل تنسيق دخولي من الأردن إلى جسر الملك حسين ومنه إلى معبر إيرز، لم تكن لدي أي طريقة للحصول على تصريح مسبق وفهمت أنه من دون تصريح من اسرائيل لن يكن بإمكاني الهبوط في الأردن. نجحت بالعودة إلى بيتي في تشرين الأول، وكان ذلك أيضًا بفضل الالتماس الذي قدمتموه لي في حزيران. في هذه الفترة فاتني عيد ميلاد ابنتي السابع، رغم أني خططت العودة قبل ذلك بكثير حتى لا أفوته. أخبرتها مسبقًا أنه من المحتمل ألا أكون موجودًا في عيد ميلادها، لكني كنت آمل أن أفاجئها وأحضر العيد. كان الأمر مؤلم لكلينا.
***
لقراءة إفادات عن العنف البيروقراطي المتأصل في نظام التصاريح الإسرائيلي التي أفادت بها جهات من الإدارة المدنية الاسرائيلية ومديرية التنسيق والارتباط – غزة ومكتب منسق عمليات الحكومة في المناطق لمؤسسة “نكسر الصمت”، اضغطوا هنا.
أمثلة مختارة (باللغة الانچليزية):
العنف البيروقراطي (صفحة 27)
هي مجبرة على العودة لغزة (صفحة 30)
نقطع عنهم (صفحة 46)
الكثيرون ممنوعون، هذا مجنون (صفحة 56)
انتظر رد الأمن (صفحة 72)
شبكات من السيطرة (صفحة 57)