كجزء من عملي في المركز القانوني “چيشاه-مسلك” أتحدّث يوميًا مع فلسطينيين من غزة يعيشون بشكل يومي وحشية سياسة إسرائيل التي تحظر عليهم الحركة والتنقل من القطاع وإليه لممارسة احتياجات أساسية.

في أحد أيام شهر أيلول الماضي، تلقيت مكالمة من السيدة علا باقة، من مواليد نابلس في الضفة الغربية، انتقلت بعد زواجها قبل 20 عامًا إلى قطاع غزة. خلال المكالمة قالت ليّ علا: “قدّمتُ طلبًا لمغادرة غزة مع اولادي الثلاثة كي أعود للسكن في البيت الذي كبرت فيه في الضفة، مع أفراد أسرتي المقيمين هناك”، ومضيفة أنه “لم يسبق لأولادي أن التقوا بهم حتى اليوم”. ولكن “تم رفض طلبي لأنني وقّعت على استمارة مفادها كأنني تنازلت عن عنواني في الضفة. لكنني لم أتنازل حقًا، هذا غير صحيح”.

كان كلام باقة ينهمر كالسّيل: “نجحتُ في السنة الماضية بتلقي تصريح (من إسرائيل) لزيارة الضفة. طلبت الذهاب كي ألتقي مع شقيقي الذي كان يحتضر بسبب مرض السرطان. أردت أن أراه وهو على قيد الحياة لكن التصريح الذي طلبته جاء فقط بعد ان كان قد فارق الحياة. كانت هذه الزيارة صعبة، فكل العائلة كانت في حداد. اقتصرت مهلة التصريح على ثلاثة أيام فقط ولم اتأخر ولو لدقيقة واحدة أكثر. فأحد اولادي في غزة مريض، يعاني من متلازمة داون وهو متعلق بي. لقد استصعب كثيرًا أني غادرته.

السيدة علا باقة مع صورة لأخيها المتوفى. تصوير: محمد زعنون
السيدة علا باقة مع صورة لأخيها المتوفى. تصوير: محمد زعنون

“في أثناء العودة إلى غزة، أوقفتني جنديات على معبر إيرز ولم يسمحن لي بمواصلة طريقي، لم أفهم السبب ولا ما كنّ يقلنه. وهنا جاء منظّم يعمل في المكان ليترجم لي وقال: ’إما أن تعودي إلى الضفة وفقًا للعنوان الظاهر في بطاقة هويتك وإما أن توقعي على استمارة تعلنين فيها أنك تغيّرين عنوانك إلى غزة’. حاولت أن أشرح لهم بأنني يجب أن أصل إلى بيتي وأولادي، لكن حين رأيت انهم لا يفهمونني، انكسرت”.

رحت أتخيّلها: امرأة في سنوات الأربعينيات من عمرها، ثُكلت للتوّ بفقدان شقيقها الذي لم تلتق به منذ سنين ولن تلتقيه مجددًا. تقف جانبًا عديمة الحيلة، باكية. تستعطف فيما هي ممزقة ما بين اختيار مستحيل ومصيري يجبرونها عليه – العودة إلى بيتها في نابلس، أو العودة إلى ابنها ذو الاحتياجات الخاصة في غزة؟ في هذه المرحلة، كما في كل حالة مشابهة، شعرت بأن عينيّ تغرورقان بالدمع أيضًا. أتذكر جيدًا صوت علا حين قالت لي: “فهمتُ في النهاية انه لا مفرّ أمامي. ووقّعت الاستمارة كي أتمكن من الدخول إلى غزة”.

القصص المشابهة لقصة علا ليست نادرة في إزاء سياسة الفصل الإسرائيلية التي تسعى منذ عقود إلى بتر المناطق الفلسطينية عن بعضها وعزل غزة عن الضفة، وحتى بثمن تشتيت شمل عدد لا يحصى من العائلات الفلسطينية. فإسرائيل تسمح أصلاً للزوجين الذين أحدهما عنوانه المسجل بالهوية الضفة الغربية والثاني غزة، بممارسة حقهما بلم الشمل في غزة فقط. وغالبًا ما تكون النساء هنّ من ينتقلن إلى غزة بعد الزواج. وفي اللحظة التي ينتقلن فيها إلى غزة لا تعود إسرائيل تسمح لهنّ بلقاء ذويهنّ سوى في حالات “إنسانية واستثنائية” فقط لأحد الأقرباء من الدرجة الأولى في حالات موت، مرض يهدد الحياة أو زواج.

مع ذلك، فإن حالة علا تكشف كيف تستغل إسرائيل هذه الأوضاع القاسية كي تُجبر النساء الفلسطينيات سكان الضفة الغربية اللواتي يعشن في قطاع غزة على توقيع استمارة تعلن عن “استقرار” دائم في غزة، ثم تستخدم هذا كي تمنع عنهن الحق الأساسي في العودة إلى بيوتهن في الضفة مستقبلاً. يذكّر التقرير الذي أصدرناه في “چيشاه-مسلك” عن هذه الممارسة التعسفية بأنه وفقًا للقانون الدولي، هذه الممارسة هي “نقل قسري” ترتقي إلى درجة جريمة الحرب.

السيدة علا باقة مع زوجها واطفالهم. تصوير: محمد زعنون
السيدة علا باقة مع زوجها واطفالهم. تصوير: محمد زعنون

تواصل باقة حديثها قائلة: “أريد العودة إلى الضفة، ولكن مع أولادي، وبشكل منظم. فحين توجهت إلى مكتب لجنة الشؤون المدنية في غزة كي أقدم للجانب الإسرائيلي طلب لزيارة شقيقي في الضفة، الذي كان على فراش الموت، أبلغوني انه يجب عليّ مراجعتهم بعد انتهاء الزيارة وعندها أقدّم طلب العودة إلى الضفة. وهذا ما فعلته، لكن بسبب توقيعي على تلك الاستمارة قالوا لي إن إسرائيل ترفض الطلب”.

قلت لها إننا سنحاول مساعدتها، لكن كان من الصعب عليّ أن أضيف شارحةً لها بأنه لو نجحنا، فوفقًا لسياسة إسرائيل، يمكن لزوجها المسجل كأحد سكان غزة زيارتها هي وأولادهما في الضفة في حالات مقتضبة فقط – في حال وفاة أحدهم، أو إصابته بمرض شديد أو زواجه. وحتى في مثل هذه الحالات فمن المرجح ان إسرائيل سترفض السماح له بمغادرة غزة، لأنه من جهتها قد يقوم “بالاستقرار” معهم في الضفة.

وهنا تنهدتْ علا بصمت. “أفهم هذا، فالقرار صعب جدًا. ابننا يتواجد في إطار خاص لا يوفر له جميع احتياجاته. جهاز المناعة لديه ضعيف، لديه مشاكل صحية وكذلك مشاكل اجتماعية تؤدي إلى تدهور حالته النفسية، ومعاناته تترك أثرها الصعب على كل أفراد الأسرة. في الضفة أُطر ستلائمه أكثر، وأنا أريده أن يكتسب مهنة. وضعنا الاقتصادي صعب، والإطار الذي يتواجد فيه هنا مكلف جدًا ولا يمكننا تسديد القروض التي نعيش عليها”.

في مطلع تشرين الثاني الأخير قدمنا التماسًا طالبنا فيه بالسماح لعلا بالعودة إلى الضفة مع أولادها، وتم تحديد جلسة للنظر في الالتماس في أواخر آذار. كل ما تبقى الآن هو أن ننتظر ونأمل. حاليًا، وافقتْ ان أروي قصتها وأرسلت لي أيضًا صورة لها مع الأسرة في القطاع.

إنها السيدة بالمعطف الأخضر الواقفة في الوسط بين أولادها. تمعّنوا بها.

صورة من السيدة علا باقة وعائلتها
صورة مقدمة من السيدة علا باقة وعائلتها

***

سيرين علي هي مركّزة توجهات الجمهور في القسم القانوني التابع لـ ” چيشاه-مسلك”

نشرت المقالة بالأساس باللغة العبرية بموقع “سيحاه مكوميت”، بتاريخ 11.1.2023

أيضًا نشرت المقالة باللغة الإنچليزية بموقع “972+”، بتاريخ 19.1.2023