شاخ أطفال غزة على غير موعدهم، وبات أصغرهم يتحدث بلسان مسن أنهكه الدهر وبرزت تجاعيد الزمن على وجهه، ليس ذلك بسبب الجلسات في الدواوين أو المجالس الشعبية، بل من الحروب التي شنتها إسرائيل على القطاع الساحلي الضيق جدا والذي دومًا ما يخلف قتلى وجرحى.
تتوقف رحى الحرب ويبدأ بعدها سيل من الأسئلة التي يطلقها أطفال غزة باحثين عن إجابة مقنعة، لماذا حصل كل ذلك، ولماذا قتل صديقي، ولماذا أصيبت طفلة جارنا، ولماذا كثيرة وكثيرة، نقف نحن الكبار عاجزون عن الإجابة، نحبس دموع القهر ونكتم معاناة لو وزعت على أهل الأرض لكفتهم.
ليس هذا فحسب، ولكن ما هو أخطر من ذلك بكثير، التأثير النفسي على أطفال غزة والذين باتوا معقدين نفسيا ومضطربين نفسيا بشكل كبير، فهناك أجيال نشأت على صوت القذائف والمدافع وطائرات الـF16، حتى باتوا يعرفون ويفرقون أنواع الأسلحة العسكرية التي تستخدمها إسرائيل ضد سكان غزة.
للأسف الشديد وكما كل عملية عسكرية أو حرب تشن على غزة، تذهب الجهات المعنية لتقييم الأضرار السكنية والزراعية وغير ذلك وتتناسى الأضرار النفسية التي اعتقد أنها أخطر بملايين المرات.
خلال التصعيد الأخير على غزة وبحكم عملي، مكث أطفالي الثلاثة مع زوجتي في المنزل لوحدهم، ينتابهم القلق والخوف الشديدين مع حلول ساعات المساء في ظل انقطاع التيار الكهربائي، لا يجرؤ أحد منهم الذهاب لقضاء حاجته إلا بمرافقة زوجتي الخائفة أصلًا ولكنها تحاول امتلاك نفسها وإظهار أنها قوية أمام أطفالي لعل ذلك يمنحهم جرعة الأمن والأمان الذين يبحثون عنها رغم ضجيج الطائرات الدائم في سماء غزة.
مع كل صوت انفجار تسارع زوجتي للاتصال بي، أولا من باب الاطمئنان علي، وثانيا لإسماع صوتي لأطفالي لعلهم يتوقفون عن التمسك في ثيابها خوفا من تلك الانفجارات التي تزلزل أركان البيت، ووقتها ينهال عليّ أطفالي بسلسلة من الأسئلة، أبرزها متى ستتوقف الحرب، ولماذا كل هذه الانفجارات، ومتى ستعود إلينا يا “بابا” والتي عادة ما تكون أسئلة ممزوجة بالبكاء لمصير غير معلوم، فهل سيبزغ الصباح علينا أحياءً، أم في لحظة سنكون في عداد الضحايا.
انتهت الحرب الأخيرة بعد 55 ساعة من القتال المستمر وحملت حقيبتي وتوجهت إلى منزلي في ساعات الصباح الباكر، لأجد أطفالي الثلاثة نائمون في سبات عميق بعد توقف صوت الانفجارات والقصف والصواريخ، وما إن استفاقوا حتى تصارعوا على احتضاني لعل ذلك يمنحهم حنانا وأمنا بعد حرمان ثلاثة أيام من الفراق القصري.
رغم حرص زوجتي الشديد على عدم رؤية أطفالي لمشاهد القتل والدمار، إلا أنهم يمتلكون مهارات استخدام الهواتف الذكية ويبدو انهم وبخلسه شاهدوا بعضا من ضحايا الحرب سيما الأطفال، ما جعلهم يغرقونني للمرة الثانية بسيل من الأسئلة التي وقفت حائرا في الإجابة عليها، سوى أن أردد لهم ” نحمد الله على أننا ما زلنا على قيد الحياة”.
لا أحد في هذا العالم ممكن أن يجيب عن أسئلة أطفال غزة المتكررة، الذين يتعرضون لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد النفسي، حيث لا نملك نحن أصحاب التجربة المريرة إجابات واضحة تشفي صدورهم التي لوثها البارود الإسرائيلي.
حكمت يوسف، كاتب المقال، هو صحفي من قطاع غزة.