سلام للجميع، وشكرًا لعضويّ الكنيست عايدة توما-سليمان وموسي راز على تنظيم هذا المؤتمر شديد الأهميّة. أسمي نوعا غاليلي وأنا أمثّل “چيشاة-مسلك” – منظّمة حقوقيّة إسرائيليّة تُعنى بالدفاع عن حريّة حركة الفلسطينيين، لا سيما في قطاع غزّة.
منذ تنفيذ خطّة فك الارتباط، صيف 2005، يفترض كثير من الإسرائيليين أن إسرائيل قد رفعت يدها عن قطاع غزّة ولم تعد مسؤولة عمّا يجري هناك. أخلت إسرائيل المستوطنات وسحبت جيشها، إلا أنها على أرض الواقع لا زالت تمنع الخروج والدخول إلى غزّة بحرًا وجوًا، وتسيطر على كل المعابر البريّة للقطاع – ما عدا معبر رفح المصريّ. السيطرة الإسرائيلي على الحياة في قطاع غزّة شبه مطلقة: تقرّر إسرائيل من يدخل ويخرج للقطاع وفي أي ظروف، كما تقرر أي البضائع والمنتوجات، ومن ضمنها الأغذية والأدوية، يمكنها أن تدخل او تخرج من القطاع. هذا ليس فك ارتباط، إنما سيطرة عن بُعد.
منذ أكثر من 14 عامًا، تفرض إسرائيل إغلاقًا شبه تام على قطاع غزّة، ضمنها 4 حملات عسكريّة ضخمة وعدد من الاعتداءات القصيرة، كلّها سلبت حياة الآلاف مسّت بمئات الآلاف وأدّت إلى دمارٍ هائلٍ.
سأحاول هنا أن أقدّم لكم قراءة للوضع في غزّة، وواقع المعاناة التي يعيشها 2 مليون إنسان من سكّان القطاع، معظمهم من الأطفال الذين يولدون ويكبرون في ظل إغلاق وعزلٍ قسريّ عن العالم.
تشكّلت خلال سنوات الإغلاق سياسة فصلٍ إسرائيليّة تهدف إلى فصلٍ قسريّ بين شطريّ المنطقة الفلسطينيّة – الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. سياسة الفصل المتّبعة حتّى هذا اليوم تقوم على مبدأ “فرق تسد”، وتمس مسًا خطيرًا بحياة الفلسطينيين وتؤدّي إلى شرذمة العائلات وتقيّد الحصول على الخدمات الطبيّة، فرص العمل والتعليم وما إلى ذلك. برّرت إسرائيل هذه السياسة في سنواتها الأولى بأنّها حاجة أمنيّة، أما اليوم فبات من الواضع أن الاعتبارات الحقيقيّة خلف هذه السياسة هي اعتبارات سياسيّة وديمغرافيّة بالأساس.
يواجه الفلسطينيّون في المنطقة C -كما في مناطق A وB في الضفّة الغربيّة، والمنطقة G كما تُسمّى غزّة في هذا السياق- مستقبلًا ضبابيًا. ليس في ظل نوايا الضم الرسميّ التي تُطرح على الطاولة وتُسحب عنها فقط، إنما في ظل التفرقة والفصل الذي تخلقه إسرائيل بين الفلسطينيين. وهو فصل يمكّن من تطبيق الضم على أرض الواقع.
مؤخرًا، نشر مركز “چيشاة-مسلك” تقريرًا يفحص كيف يخدم عزل غزّة المتواصل أطماع إسرائيل بضم الضفّة الغربيّة، وذلك على حساب حقوق الفلسطينيين الأساسيّة ممن يعيشون تحت سيطرتها. يقضي مخطط إسرائيل بتحويل الضم الفعليّ لأجزاء من الضفّة الغربيّة إلى ضمٍ رسميّ، ويتطلّب هذا المخطط فصلًا متعمّدًا بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ومنظومات تشغّلها السلطات الإسرائيليّة من أجل الحد من حركة الفلسطينيين وإضعاف علاقاتهم التبادليّة بين المنطقتين. من الجدير بالذكر في هذا السياق بأنّ قرارات دوليّة واتفاقيّات سابقة كانت قد اعترفت بالضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ككيانٍ واحدٍ، لا سيما وأنها منطقة تشترك بذات اللغة والثقافة والاقتصاد، كما العلاقات العائليّة المتفرّعة.
طبيعة السيطرة الإسرائيليّة على كل منطقةٍ من المناطق، المكانة القانونيّة ومستوى الحقوق التي تتيحها إسرائيل للفلسطينيين بحسب مكان سكنهم، كلّها تعبّر عن هدف واحدٍ طويل الأمد يُملي سياسات إسرائيل: السعي للسيطرة على أوسع مساحة من الأرض، عليها أقل عددٍ من الفلسطينيين.
أود أن أشارك، باقتضاب، قصّة عائلة حمو. وُلدت الأم، كوثر، في الضفّة الغربيّة. وبما أنّه لا يُسمح بلم شمل العائلات في الضفّة الغربيّة، اضطرّت كوثر للانتقال إلى غزّة مع زوجها المقيم هناك. عام 2017، بسبب تردي الأوضاع في القطاع، تلقّى الزوجان قرارًا مؤلمًا – أن تنفصل العائلة وتنتقل كوثر وخمسة أولادها للعيش في الضفّة الغربيّة بحثًا عن مستقبل أفضل، بينما يبقى الأب (الذي تمنعه سياسة الفصل من الانتقال) في قطاع غزّة.
وبالفعل، قدّمت كوثر طلبًا للانتقال إلى الضفّة الغربيّة مع أولادها الخمسة. قبلت إسرائيل الطلب للأم وأربعة من أبنائها فقط، وصدر القرار ببقاء آدم، الابن الأصغر البالغ في حينه 3 سنوات ونصف، في قطاع غزّة. برّرت إسرائيل ذلك بأنّ آدم الصغير، بخلاف أخوته الأربعة ووالدته المسجّلين في الضفّة، مسجّل كمقيم في القطاع بحسب سجل السكّان الفلسطينيّ الذي تسيطر إسرائيل عليه رغم اتفاقيّات أوسلو.
البهلوانيّة القضائيّة التي تتبعها إسرائيل من أجل التنصّل من مسؤوليتها اتجاه أهالي غزّة، كما صمت أجزاء كبيرة من العالم أمام هذا السجن المستمر للمدنيين، إضافةً للحملات العسكريّة المتكررة والمتفاقمة التي تتضمّن قتالًا في قلب تجمعات سكنية مكتظة، يجب أن تكون ضوءًا أحمر يحذّرنا مما يمكن أن يحدث في الكنتونات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة أيضًا.
سياسة الفصل، مع توسيع المشروع الاستيطاني في الضفّة الغربيّة، تشكّل استراتيجيّة إسرائيليّة لشرذمة المجتمع الفلسطيني ومنع الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره. كما أثبتت مرارًا، تستخدم إسرائيل سيطرتها المتواصلة كوسيلة ضغط، وصولًا للعقوبة الجماعيّة، ولا توازن بين حاجاتها الأمنيّة وواجب احترام حقوق الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيليّة. حتّى في غياب حل سياسي للصراع، وهو ما لا يلوح في الأفق، إسرائيل ملزمة بحماية حقوق الإنسان الأساسيّة للفلسطينيين، ومن ضمنها حقّهم بالحركة.