ترعرع أبناء هذا الجيل في قطاع غزة على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية في ظل القيود الشديدة التي تفرضها إسرائيل على الحركة (والتي شُدِّدت في العام 2007 حتى أصبحت إغلاقًا تامًا)، سيطرتها المستمرة على المجال الجوي والبحري للقطاع وعلى المعابر البرية مع إسرائيل. عاش هذا الجيل في ظل الرعب والدمار والموت الذي أسفرت عنه أربع عدوانات دامية على الأقل وقصف إسرائيلي دوري لا متناهي على القطاع، وواقع يتسم بعدم الاستقرار الناتج عن الانقسام السياسي الفلسطيني.
معظم سكان القطاع هم من جيل الشباب. فما يقارب الـ 70٪ من السكان تحت سن 30 وأكثر من نصفهم أطفال دون سن 18 عامًا. هذا الجيل هو مستقبل القطاع، لكنه لا يتذكر واقع حياة آخر، فالحقوق الأساسية لجيل الشباب الفلسطيني هذا – الحق لبناء عائلة، للعلاج الطبي، لاختيار مهنة وحقوق كثيرة أخرى – خاضعًة بالأساس لقرارات إسرائيل المجحفة. يعيش هذا الجيل في ظل محاولات إسرائيل لفصل سكان غزة عن أبناء الشعب الفلسطينيّ في الضفة الغربية وداخل إسرائيل، للضغط على سكان القطاع ومعاقبتهم على أحداث خارجة عن سيطرتهم، وتقليص احتياجاتهم للحد الأدنى الذي تعرّفه إسرائيل على أنه “إنساني”. كل هذا بينما تتجاهل اسرائيل حقوق السكان الأساسية باستمرار.
في ذكرى مرور عام على العدوان الإسرائيلي على القطاع في أيار 2021، وذكرى ملئ 15 عامًا على الإغلاق المستمر الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، حدثنا ثلاثة شبان من غزة، بكلماتهم، عن تأثير سياسة إسرائيل العنيفة على واقع حياتهم وأحلامهم وطموحاتهم الشخصية، وعن آمالهم للتغيير.
“في غزة، حتى أحلامنا خاضعة للقيود الإسرائيلية“
حازم الجاعوني، 23 عامًا، مصمم غرافيكي. كان في السابعة من عمره عندما شددت إسرائيل الإغلاق على القطاع.
“لم أخرج من غزة في حياتي، ولا أملك حتى جواز سفر. أنتمي لجيل لا يعرف واقعًا آخر غير الحصار الذي فرضته اسرائيل على غزة. نشأت على الإعلانات عن فتح المعابر وإغلاقها، على قصص أشخاص مرضى لم يتمكنوا من الخروج من القطاع لتلقي علاجًا طبيًا. نشأت في ظل حياة في سجن. أخبرني والدي، وأشخاص آخرون من الأجيال الأكبر منا، كيف اعتادوا السفر من وإلى غزة، حدثوني انهم اعتادوا مغادرة غزة في ساعات المغرب لوجبة عشاء في يافا. لم أستطع حتى تخيل ذاك الواقع، بالنسبة لي هذه الأمور هي بمثابة أحلام.
“أرى أنا وأبناء جيلي الذين يعيشون تحت الحصار، كيف يتقدم الشباب في مناطق أخرى من العالم ويتطورون. نحن محرومون أصلًا من التفكير بذلك حتى. لا نعرف شعور الترقب والإثارة عند الوصول إلى المطار، فلم نرَ طيارات عادية سوى على شاشة التلفزيون. لا نعرف طيارات أخرى عدا عن الـ F16 والطائرات المسيرة”.
أريد أن أكون حرًا
“الوضع في غزة كئيب للغاية. معظم خريجي الجامعات لا يجدون فرص عمل ويعيشون تحت الاحتلال والحصار والانقسام السياسي وانعدام الاستقرار. تنشب حرب كل فترة، يقتل الكثيرون وتدمر البيوت والأراضي، وتسحق معها الأحلام والآمال. لا يعني هذا أن علينا الاستسلام وألا نحلم بواقع أفضل، ولكن في غزة، حتى الأحلام خاضعة للقيود الإسرائيلية، فلا تتوفر تقريبًا إمكانيات العمل والتطور خارج القطاع. الأحلام التي بنيتها خلال دراستي آخذة بالتلاشي إبان واقع خارج عن سيطرتي.
“أريد أن أكون حراً وأن تتاح لي فرصة العيش، والسفر، والاستمتاع، ومغادرة غزة والعودة إليها. أخشى أن أحصل على جواز سفر وأن أسافر وحدي، فلم أقم بهذه الخطوة من قبل. سمعت عن معاناة السكان على المعابر وهذه القصص تخيفني”.
“ حياتنا هنا مريرة ومليئة بالتحديات“
نور مرتجى، 20 عامًا، طالبة بكالوريوس في نظم المعلومات. كانت في الخامسة من عمرها عندما شددت إسرائيل الإغلاق على القطاع.
“لا أشعر أنني عشت حياة حقيقية في غزة. حياتي في القطاع مركبة من أربع حروب، حصار وإغلاق، قلق وانتظار لا نهاية له. عندما تتحدث عائلتي بحنين عن الحياة قبل (الإغلاق) أقول لهم أنهم قد عاشوا حياة كهذه على الأقل. نحن جيل لم يرَ ولم يعِش أيًا من ذلك”.
حياة أساسها القلق
“حياتي مبنية على القلق والخوف. تسمعين صوتا في الشارع وتستيقظين خوفًا متسائلة “شو صار؟”. الأصوات والضوضاء التي تتكون منها ذكرياتي هي أصوات الحروب والقصف والانفجارات. كل صوت يخيفني. يستخدم الناس في العالم الألعاب النارية للاحتفال والتعبير عن الفرح، لكنها تذكير للقصف بالنسبة لي.
“حياتنا هنا مريرة ومليئة بالتحديات. رغم كل هذا، جعلت مني التحديات امرأة قوية تحلم بمستقبل وواقع أفضل. آمل أن أرى غزة كواحدة من أفضل الأماكن في العالم، أن ننعم ببيئة وهواء نظيفين، أن نعيش بأمان وسلام، ونبني مستقبلًا مثل أي شاب وشابة في العالم”.
“يصعب علينا زيارة أقاربنا وهم ممنوعون من القدوم الى غزة“
إيمان الدريملي، 23 عامًا، حاصلة على البكالوريوس في التمريض من جامعة الإسراء، تعمل في وظيفة جزئية في عيادة طبية وتقيم في مدينة غزة. كانت في السابعة من عمرها عندما شددت إسرائيل الإغلاق على القطاع.
“لم أغادر غزة في حياتي. يهمني أن أرى العالم والتعرف على ثقافات مختلفة. وصل والداي إلى غزة من الأردن في العام 1998 وبقي باقي أفراد عائلتي هناك. عائلتي مشتتة، يصعب علينا زيارة أقاربنا وهم ممنوعون من القدوم الى غزة. نشأت على محادثات هاتفية طويلة بين أمي وخالاتي في الأردن وعلى حديثهن عن أمل اللقاء. تمكنت أمي من مغادرة غزة لزيارتهن بعد 14 عامًا.
“كنت أرغب بزيارة أماكن أخرى في فلسطين، في الضفة الغربية والقدس، حيث يعيش أقربائي. أريد أن أبني علاقات اجتماعية وصداقات مع فلسطينيين من خارج القطاع. أنا متأكدة أن الكثير من الفلسطينيين يرغبون بزيارة غزة أيضًا”.
لا يمكن الاستمرار من دون عمل
“بدأت أبحث عن عمل بعد أن أنهيت دراستي الجامعية. كانت الأشهر الأولى من البحث محبطة للغاية. السوق مشبع، ونقص شديد في فرص العمل، بالإضافة إلى أزمة الكورونا التي كانت في أوجها. العمل هو جزء أساسي من الحياة، ولا يمكن العيش من دونه. قررت أن اتطوع، وحتى للتطوع اضررت إلى الانتظار لوقت طويل. تفاجئ الناس من حولي حين عرفوا أن ما أقوم به هو تطوعي.
“أحب غزة كثيرًا، لكن بدأت أفكر في السفر إلى خارج القطاع عندما أدركت أن مستقبلي، ومسار حياتي المهني غير واضح هنا. الحقيقة هي أن المستقبل صعب هنا ومشكلة البطالة في ازدياد. هذا الوضع الصعب مشترك بيني وبين زملائي في القطاع”
أيام لن أنساها
“أتذكر يوم 27 كانون الأول 2008، كنت حينها في المدرسة الابتدائية. تقدمنا في ذات اليوم لامتحان في الصف، وفجأة سمعنا انفجارًا مدويًا. ارتعدت طاولتي وتطايرت الأوراق في الهواء، وسمعت أصواتًا تصيح “قصف! أخرجوا!”، وعدنا أدراجنا هربًا إلى بيوتنا. كانت هذه الحرب الأولى التي عشتها في حياتي، لن أنسى هذا اليوم طالما حييت. بعدها أضيفت له أيام أخرى أصعب محفورة في ذهني من حروب الأعوام 2012 و- 2014 و- 2021.
“يصرّ سكان غزة رغم كل الصوبات على الاستمتاع بأبسط الأشياء. فالصعوبات أدت بنا لبناء مجتمع متماسك، لكن الحروب غير المتناهية تنتج صدمات واكتئاب ومعاناة وتحديات نفسية كبيرة. أنتج الحصار الفقر والبطالة وأزمة اقتصادية وتشاؤم لدى السكان“.
طموحات مكبوتة
“أحبط الحصار طموحاتنا وحصرها وأدى بنا للاكتفاء بالحد الأدنى من الأمور. نحن سجناء في أكبر سجن في العالم. نشأ جيلنا في واقع حروب لا نهاية لها، ومع تجربة حياة مليئة بالألم والمعاناة والقمع.
“نحن مليئون بالطاقات ورباطة الجأش للمضي قدمًا. مع ذلك، قد نشأنا تحت واقع تخيم عليه قيود الحركة وإغلاق المعابر، انقطاع الكهرباء لفترات طويلة وأزمة مياه وتلوث ماء البحر، شوارع مدمرة ونقص في المواد الأساسية لإصلاحها. هذا الواقع حرمنا من الحقوق الأساسية التي يستحقها كل إنسان”.