توقّعت حدوث عدوان قريب على غزّة، وبالرغم من ذلك فقد فوجئت. أنا أتفاجأ كل مرة تندلع فيها حرب، على الرغم من أننا “اعتدنا” عليها. فهناك أمور لا يمكن الاعتياد عليها. عند حوالي الساعة الخامسة، دخل ابني الأصغر البيت وقال “لقد قصفوا برجًا سكنيًا في غزة”. وفورًا انتابني شعور ثقيل بالقلق. صحيح أن هذا الشعور مألوف، لكنه يتخذ شكلاً جديدًا في كل جولة حرب أعيشها.

أرى الرعب في عيون أفراد أسرتي. لقد توقفت عن عدّ المرّات التي رأيت فيها هذا الخوف في عيونهم. نبدأ جميعا بالتصرّف بشكل اوتوماتيكي، دون تفكير بما تفعله ولماذا تفعله. ترتيب البيت وتحضير تجهيزات الحرب؛ أجمع كل وثائق أفراد العائلة، لا أعرف لأي غرض سوف نحتاجها لو فجّروا البيت. لا أعرف لماذا نشتري أصناف طعام معينة من المؤكد أننا لن نأكلها؛ لا أعرف لماذا أطفئ الأضواء في المطبخ، ربما لأن المطبخ يطل على الجهة الشرقية، ولكن ما الفرق الذي سيصنعه هذا، فالصواريخ لا تحتاج أضواءً كي تصل. لعلّ الأمر مدفوع بشعور لا تفسير له بأنه لو قصفونا فالأفضل أن يكون ذلك وسط الظلام.

الحالة النفسية مضطربة بدرجة قصوى. أشعر بالسأم في شرح نفس الأمور، ونفس الواقع. يطرح الأولاد أسئلة كبيرة لكن هذه المرة أيضًا ليس لديّ إجابة عليها – من سيعمل على التوصل إلى تهدئة؟ متى ستتم؟ ربما يتصوّر الأولاد أن التهدئة هي شيء يتم إنتاجه لوقف القتل والقتال. يفتحون شبكات التواصل الاجتماعي ويرون كل شيء، الصور، القتل وقصص من تُركوا بلا مأوى.

أحاول أن آكل لكن الطعام بلا طعم. طعم المرارة يطغى على الماء. مهما شربنا بكميّات نظل نشعر بالعطش. ربما أنه الضغط النفسي. لا أستطيع تفادي التفكير بالطفل الذي اعتقد أن صديقه الشهيد يتكلم معه ثانيةً. ذكريات جديدة تتراكم في بنك ذاكرة الحروب التي نحملها جميعًا. تنهض من النوم وتتساءل، هل هناك حقًا وقف إطلاق نار؟ أعيد نفسي إلى الواقع، لقد حصل هذا فعلا. كل ما تبقى الآن هو الاقتناع بأن الأمور ستكون بخير. بعد ذلك تحاول استعادة الابتسامة، وبثّ مظهر أنك تشعر بالطمأنينة.

كيف يمكن وصف الحياة في غزة؟ كيف يمكن وصف الأضرار والخراب، ما يحدث في المعابر، القصص التي لا يمكنك نسيانها؟ كيف تنقل مشاعر وأفكار الناس أو تصف للعالم في الخارج كيف ننجح في الحصول على حاجيات أساسية بينما تتساقط القنابل علينا؟

أقسى الصور هي للأطفال المرعوبين. أولئك الذين ركضوا يوم الجمعة عائدين من البحر ليُحتجزوا في بيوتهم يغمرهم الحزن والوجع؛ شاعرين بالعجز ولا يصدقون ما يجري لهم مرة أخرى. الأطفال الذين يبحثون عمّن يحتضنهم ويهدئ من روعهم.

الناس في غزة يعيشون على الهامش، هناك يصارعون وجعهم الداخلي. الأمر المحزن هو أن هذا تحوّل إلى الوضع السائد. تشعر بأن العالم كله يعمل ضدك، وكل ما تقوم به من أجل بناء حياة أفضل لك ولمن حولك، يذهب سُدى. أحيانًا، الحياة نفسها تصبح بلا طعم.