بعد مرور عام تقريبًا على حديثنا معه لأول مرة، التقينا مرة اخرى بعبد الله أبو حليمة، فلسطيني من سكان غزة تعرض مشروعه الفريد للزراعة المائية لأضرار بالغة جراء القصف الإسرائيلي في أيار 2021. عبد الله أبو حليمة، 35 عامًا، متزوج وأب لثلاثة أطفال، حاصل على البكالوريوس في نظم المعلومات من جامعة الأزهر، أقام في العام 2019 مشروع الزراعة المائية لحل المشاكل التي يواجهها المزارعون في القطاع. أتاحت الدفيئة الفريدة التي بناها كجزء من المشروع استخدام أكبر لمساحات صغيرة من الأرض، وقللت من كمية المياه اللازمة لكل محصول. تضررت الدفيئة في 19 أيار 2021 بقصف جوي ومدفعي إسرائيلي على المنطقة، مما أدى إلى تدمير محاصيل كاملة، بالإضافة إلى تضرر المبنى والمعدات داخله. قدرت وزارة الزراعة في غزة قيمة خسائر المشروع بنحو 70 ألف دولار.
عندما تحدثنا مع ابو حليمة قبل عام، كان يخشى من أن يحدث له مثل ما حدث للأشخاص الذين تضررت أراضيهم ومصالحهم في حرب 2014، وأن يستصعب إيجاد تمويل لترميم مصلحته. “كان التركيز آنذاك [في 2014] على ترميم المشاريع السكنية، وهو أمر مهم، لكن لم يتلقَّ المبادرون والمزارعون آنذاك أي تعويض”. بعد مرور عام تحولت مخاوف أبو حليمة إلى واقع. على مدار أشهر بعد العدوان قدم أبو حليمة طلبات تمويل للعديد من المنظمات الدولية والمحلية، دون أن تستجب أي منها لطلباته، فالكثير من القضايا تعلّق في واقع ما زالت تنتظر فيه عائلات كثيرة إمكانية إعادة بناء بيتها.
أدرك أبو حليمة أن لا مفر سوى التكيف مع الواقع الجديد، فقرر استخدام قطعة أرضه لبناء دفيئات زراعية عادية على أمل أن يتمكن من العمل والمضي قدمًا، لكن الديون المتراكمة عليه كانت كبيرة للغاية.
“هذه أصعب فترة مررت بها في حياتي،” يقول أبو حليمة، “لا دخل، لا أفق، كل محاولة ترتطم بعقبة انعدام التمويل. لا استقرار سياسي، ولا أمني، ولا اقتصادي”. لم يترك سوق العمل، الذي يعاني من عبئ 15 عام من الإغلاق الإسرائيلي المشدد، لأبو حليمة الكثير من الخيارات. “كان لدي ثلاث خيارات فقط: محاولة الخروج من غزة والسفر إلى تركيا للبحث عن عمل، أو البقاء في غزة والذهاب إلى السجن بسبب الديون التي لم أستطع سدادها، أو التقدم بطلب للحصول على تصريح للعمل في إسرائيل”، يقول أبو حليمة.
في بداية العام 2022، حصل أبو حليمة على تصريح لمغادرة غزة للعمل في إسرائيل، وهو يعمل الآن في مجال الترميمات. “بدأت بسداد الديون على الاقل. هناك دائما خطر أن تغلق إسرائيل المعبر بسبب الوضع الأمني لكن ليس لدي بديل في قطاع غزة”.
على مدى سنوات لم تضع إسرائيل العقبات المستحيلة أمام تطوير المبادرات والمصالح الصغيرة والكبيرة في غزة فحسب، بل اضرت عمدا بالاقتصاد الفلسطيني وأخضعته للمصالح الإسرائيلية. إن تصاريح “التجارة” و ” الاحتياجات الاقتصادية” القليلة التي تمنحها للفلسطينيين في غزة ليست كافية لدعم مئات الآلاف من العاطلين عن العمل في القطاع، بالإضافة الى انها محدودة لفترة تصل إلى ستة أشهر، وأحيانًا أقل. علاوة على ذلك، فإن الحصول على تصاريح ينطوي على اعتماد أكبر على قرارات إسرائيل: هل ستغلق معبر إيرز مرة أخرى كإجراء عقابي وتمنع عشرات الآلاف من الأشخاص من الوصول إلى عملهم؟ هل تقرر إلغاء الحصة المحدودة المخصصة للتصاريح مرة أخرى كورقة مساومة سياسية؟
وهكذا، من صاحب عمل ناجح ورائد بمجاله يوظّف 11 عاملاً آخر، أصبح أبو حليمة عاطلاً عن العمل، ومن عاطل عن العمل الى عامل خارج القطاع. العمل في إسرائيل لا يخلوا من التحديات كون العمال معرضون للاستغلال وانتهاك حقوقهم. حتى اليوم، لا يزال الكثيرون من رواد الأعمال الآخرين في قطاع غزة يواجهون عواقب العدوان الأخير.
بعد حصولها على لقب في إدارة الأعمال من الجامعة الإسلامية في غزة وفوزها بجوائز من مسابقات طبخ دولية، افتتحت سجى أبو شعبان مطعمها “بيتنا” في العام 2020. كانت سجى قد وظفت حتى أيار 2021 سبع عاملات. تحدثت أبو شعبان بفخر عن إدارة المطعم المهنية، وتذكرت كيف عملت ليل نهار على أمل نجاحه. قبل العدوان في أيار شارك طاقم المطعم في مسابقات طهي إقليمية.
“شعرت بالفخر والمسؤولية لأن لديّ مصدر دخل خاص بي، كوني امرأة متزوجة. أنا لست ربة منزل فقط، بل مستقلة أيضًا ويمكنني مواجهة الصعوبات وأن أثبت لنفسي وللنساء اللائي يعملن معي أن بإمكاننا إحداث التغيير”.
قصفت إسرائيل في 12 أيار 2021 برج الجوهرة، في مدينة غزة، حيث كان يقع مطعم “بيتنا”. “عندما أخبروني عن القصف صليت لله أن يحمي المطعم، أن يبقى منه شيء”، أخبرتنا أبو شعبان في الأيام التي تلت العدوان، “لم أنم طوال الليل وهرعت في الفجر إلى المكان رغم الخطر ووجدت أن كل ما كان هناك قد دمر بالكامل! انهرت على الأرض باكية. لا يمكن للكلمات أن تصف ما شعرت به آنذاك.”
خططت أبو شعبان توظيف المزيد من النساء وكانت تحلم بفتح فرع آخر للمطعم. عندما تحدثنا إليها بعد عام من العدوان، شعرنا بالفجوة العميقة بين تلك التطلعات والواقع. “كنا نعد الطعام للناس، واليوم نأمل، عاملاتي وأنا، أن يتمكن أحدهم من توفير الطعام لأطفالنا،” تقول.
لم تتلقَّ أبو شعبان أي تعويض ولم تجد تمويلا لإعادة افتتاح المطعم. “نعيش هذا الكابوس منذ ذلك اليوم المشؤوم”، تقول، “بعد وقف إطلاق النار، ورغم كل الدمار، كنا ما نزال نأمل ونرغب بإعادة البناء، كان لدينا أمل بالنهوض. قلنا لأنفسنا أننا ربما فقدنا المكان والمعدات، لكن لدينا أنفسنا ويمكننا أن نعود [للعمل] مرة أخرى. لكن للأسف، كان الوضع أصعب مما ظننا في البداية. ليس من السهل العودة إلى العمل بعد أن فقدت كل شيء”.
قدرت وزارة الاقتصاد في غزة قيمة الخسائر التي لحقت بمطعم “بيتنا” بما يقارب 60 ألف دولار. “أكره المرور في المنطقة هناك، حيث كان برج الجوهرة،” تقول، “دمِّر البرج بأكمله وكل ما تبقى هناك مساحة فارغة تنتظر تمويل إعادة بنائه. يذكرني هذا بأن خلف كل جدار وفي كل غرفة كانت في هذا البرج قصص لأناس وأحلام لم تعد موجودة”.