شاي غرينبيرغ

لا يحظى واحد من كل خمسة أشخاص في قطاع غزّة بمياه جارية أو نظيفة بشكلٍ رتيب. أدّت الهجمات الإسرائيليّة على القطاع في شهر أيّار الأخير إلى دمار هائل في البنية التحتيّة والمرافق المدنيّة وأنزلت ضررًا بالغًا بالبنى التحتيّة لمياه الشرب، النظافة والصحّة العامّة. شبكات، أنابيب، محطّات تحلية، آبار، خزّانات مياه، محطّات ضخ ومحطّات تطهير مياه الصرف – تضرّرت كل هذه وغيرها من القصف بشكلٍ مباشر وغير مباشر. لم يعد جزء منها صالح للاستعمال. ولا زالت تنكشف أضرار كثيرة نجمت عن العدوان. ارتدادات القنابل أدّت إلى اهتزازات وتكسير للقطع الداخليّة في الآلات، وإلى أضرار بالأنابيب، وأدى ذلك إلى سلسلة طويلة من الأعطاب.

بحسب معطيات مصلحة مياه بلديّات الساحل في غزّة، لم تُصلَح ثلث الأنابيب التي تضرّرت خلال العدوان كما يجب بعد. هبط استهلاك المياه في البيوت إلى نحو 55 لتر للفرد يوميًا، وهي نصف الكميّة الذي حددتها منظّمة الصحة العالميّة كحدٍ أدنى لاستهلاك المياه. تراجعت جودة المياه أيضًا – ارتفع تركيز الكلوريد، الذي يشير للأملاح، إلى 800-1000 ميلغرام لليتر الماء بعد أن كان 400-600 ميلغرام لليتر، ويبلغ السكّان عن طعم الصدأ في مياه الشرب وعن أضرار للجلد والشعر بعد الاستحمام. ثلث مياه الصرف، نحو 50 ألف متر مكعّب يوميًا، لا تُعالج أو تُعالج بشكل جزئيّ. جزء من مياه الصرف تُخزّن في بحيرات قريبة من الأحياء السكنيّة وتتسرّب إلى المياه الجوفيّة، ويصل جزء منها إلى البحر – وهو المفرّ الوحيد لأهالي غزّة من حرّ الصيف- وتختلط بالأمواج التي تصل إلى شواطئ أشكلون وما بعدها.

في 11 أيّار، أوقفت إسرائيل تمامًا دخول البضائع من إسرائيل والضفّة الغربيّة إلى قطاع غزّة طريق معبر كرم أبو سالم ومن بينها مواد البناء، المواد الخام، قطع الغيار والكثير من المعدّات الحيويّة لتشغيل البنى التحتيّة للمياه والصرف الصحيّ. كذلك، مُنع دخول الوقود إلى محطّة الطاقة الوحيدة في القطاع، وهو ما أثّر بشكلٍ مباشرٍ على عمل البنى التحتيّة للمياه والصحّة، وخاصةً عمل محطّات تطهير الصرف التي تتطلّب كهرباء على مدار الساعة.

يومان بعد إعلان وقف إطلاق النار، في 23 أيّار، وردّت تصريحات لوزير الأمن، بيني غانتس، في موقع هآرتس مفادها: “علينا أن نتيح ما يلبّي الحاجات الإنسانيّة الأساسيّة المطلوبة. أما غير ذلك فنشترطه بالتقدّم نحو حل لمسألة الأسرى والمفقودين”. في نهاية العدوان، بدأت إسرائيل تسمح بدخول الشاحنات التي تحمل الأغذية، أغذية المواشي، والمساعدات الإنسانيّة للمنظّمات الدوليّة. كل البضائع الأخرى – ومن ضمنها الوقود المطلوب لمحطّة الطاقة، المعدّات الحيويّة لتشغيل البنى التحتيّة الأساسيّة وإصلاح الأضرار في الآلات ومواد البناء- مُنعت من الدخول إلى قطاع غزّة.

في بداية شهر حزيران، التقينا مع المهندس ماهر نجّار، أحد سكّان غزّة ونائب مدير مصلحة مياه بلديّات الساحل. في محادثة عبر تطبيق زوم مع موظّفي “چيشاة-مسلك”، بدت على نجّار سمات القلق واليأس. “نحتاج بشكلٍ طارئٍ إلى 5,000 نوع من القطع والمواد المختلفة لإصلاح الشبكات وأنظمة المياه والصرف الصحيّ. لا تمكّن إسرائيل دخول أي من هذه إلى القطاع”، وأضاف نجّار أنّ المواد المطلوبة لعمل وبناء البنى التحتيّة لا تزال عالقة في مخازن أشدود بعد أن تم شرائها من خارج البلاد أو من إسرائيل وبعد أن تم الحصول على تصريحٍ إسرائيليّ لدخولها قبل العدوان.

كذلك قال نجّار أنه قلق جدًا من النقص الحاد بالأنابيب الحديديّة حتّى من قبل العدوان، وذلك في أعقاب تشديد التقييدات التي تفرضها إسرائيل على إدخال هذه الأنابيب للقطاع في السنة الأخيرة. “هذا النوع هو الوحيد الملائم لكل الشبكات والنظم في غزّة، إذ يتحمّل الضغط العالي، وليس له أي بديل”. بعد انتهاء القتال، يشرح نجّار، نتج نقص حاد جدًا بالمضخّات، الصمّامات، الأنابيب على اختلاف أنواعها، مصافي الحديد لتصفية الرمل من الماء وكذلك نقص بالمواد الخام. النقص الحاد بمادة “أفوكسي”، مثلًا، يعوّق انهاء العمل على محطّة تحلية مياه جديدة أقيمت بمساعدات دوليّة. “أقول دائمًا لكل الجهات في المنطقة – أخرجوا الماء والكهرباء من الصراع”، لخّص نجّار وناشدنا لنشر رسالته.

في الأسابيع التي أعقبت لقاءنا، بدأت إسرائيل تمكّن دخولًا بطيئًا جدًا للبضائع إلى القطاع. تمّت المصادقة على دخول الوقود لمحطّة الطاقة في 28 حزيران، ولا زالت إسرائيل تمنع دخول أغلب المواد الخام والمعدّات الحيويّة لعمل وإصلاح البنى التحتيّة المدنيّة. في 5 تمّوز، بسبب نقصٍ في مضادات التكلّس الضروريّة لمنع الترسّبات على أغشية تنقية الماء، أعلنت مصلحة مياه بلديّات الساحل أنها مضطرّة إلى وقف واحدة من محطّات تحلية المياه في القطاع والتي توفّر ماءً لنحو 200 ألف إنسان. هدد النقص أيضًا تشغيل محطّتي تحلية إضافيّة في القطاع، ولم تسمح إسرائيل بدخول المواد عبر معبر كرم أبو سالم إلا بعد تدخّل جهات دوليّة.

في خطابٍ لاحقٍ ألقاه، يوم 13 تمّوز، شدد غانتس على أن إسرائيل “تهتم بالمساعدة الإنسانيّة لسكّان غزّة”: “نحن، مواطنو إسرائيل، عربًا ويهودًا، نحن بشرًا، نتذكّر وجود الملايين في قطاع غزّة ونفحص كل ما يمكن أن نقدّمه من الناحية الإنسانيّة. هذه مصلحتنا.” لاحقًا، وضّح غانتس أن إسرائيل تشترط إعادة إعمار القطاع بحل مسألة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين.

إثر أنباء إضافيّة بشأن “المساعدات الإنسانيّة” توجّهنا إلى نجّار لفحص وضع إدخال المعدّات والمواد الضروريّة للبنى التحتيّة للماء والصرف الصحيّة. “وضعنا أسوأ مما كان عليه في محادثتنا السابقة”، أفاد نجار. “لا زالت إسرائيل تمنع دخول آلاف المواد والمعدّات، استخدمنا المعدّات التي تبقت لدينا لإصلاح الأضرار إلا أن المخزون نفد تمامًا، وبسبب النقص الحاد في المواد الخام فقد توقّف أيضًا الإنتاج المحليّ لجزء من الأنابيب المطلوبة لأنظمة المياه”. دخول مواد شحيحة عبر الحدود مع مصر لا يكفي لتلبية الحاجات الفوريّة لمصلحة المياه في القطاع، وأصلًا، لا يُمكن إدخال البضائع التي سبق وتم شرائها من إسرائيل والعالقة في المخازن.

نتيجة ذلك، تدهور وضع البنى التحتيّة أكثر فأكثر، وتوقّفت تمامًا المشاريع الجديدة التي بدأ العمل عليها قبل العدوان، ومن بينها بناء خزّانات المياه الجديدة وتوسيع محطّة التحلية الجديدة جنوب القطاع. وأضاف نجّار أنه يخشى من أن هذا التعطّل الخطير في العمل سيردع المتبرّعين الدوليين. كذلك قال إن دخول المعدّات العالقة يتطلّب تنسيقًا جديدًا مع إسرائيل إلا أن المستوردين لا يعرفون متى يمكنهم بدء إجراءات التنسيق. أدّت الضبابيّة الخطيرة إلى وقف الاتصالات مع المقاولين لتنفيذ المشاريع المختلفة أيضًا. “حتّى لو سمحت إسرائيل الآن بدخول كل ما هو ضروريّ،” يقول نجّار، “نحتاج تسعة شهورٍ على الأقل لإعادة المنظومة إلى ما كانت عليه عشية العدوان.”

عشيّة العدوان، تجرأ نجّار وتمنّى أن تنجز مصلحة مياه بلديّات الساحل أهدافها كما وضعتها في الخطة الاستراتيجيّة لتحسين البنى التحتيّة. تحسين أوضاع البنى التحتيّة للمياه والصرف الصحيّ في القطاع هو موضوع حرج. 95 بالمئة من المياه في قطاع غزّة معرّفة غير صالحة للشرب، لأنّ طبقة المياه الجوفيّة عند الشاطئ، وهي مخزون المياه الطبيعيّ الوحيد في قطاع غزّة، تضرّرت بشكلٍ متواصل على مدار سنوات من الضخ الزائد وتسرّب الأسمدة ومياه البحر إلى المياه الجوفيّة. المياه التي تُضخ في الخزان الجوفيّ تختلط بالمياه المحلاة وعليها أن تخضع لعمليّة تطهير. من أجل تحسين جودة الماء، يتم شراء الماء من شركة مكوروت الإسرائيليّة، إلا أن جزءًا منها يُبذّر بسبب التسرّبات من الأنابيب. ومن شأن التضخّم السكّاني، كما خطر انخفاض كميّة الأمطار بسبب التغيّرات المناخيّة، تعميق الأزمة إلى حدٍ بعيد. هذا وقد وجدت أبحاث صدرت في السنوات الأخيرة أن استهلاك المياه الملوثة وإشكاليّات الصرف الصحيّ هي المسببات لأكثر من ربع الأمراض في القطاع، وأن تلوّث الماء هو المسبب الأوّل لوفاة الأطفال.

جولات القتال السابقة وسياسات الإغلاق والتقييدات التي تفرضها إسرائيل على قطاع غزّة منعت لسنوات طويلة إصلاح وتطوير البنى التحتيّة للمياه والصرف الصحيّ. في “الأوقات العاديّة”، تعتبر إسرائيل 70 بالمئة من المواد والمعدات المدنيّة الضروريّة للأنظمة الحيويّة في القطاع كمواد “ثنائيّة الاستخدام”، لأن إسرائيل تشتبه بأنّ هذه المواد قد تُستخدم لأغراض عسكريّة. دخول المواد، المعدّات وقطع الغيار الضروريّ لتشغيل وتوسيع وتطوير النظم المائيّة وشبكات الصرف الصحيّ ليست ممكنة إلا عبر إسرائيل ومنوطة بموافقتها. التأخيرات المستمرة من الجهة الإسرائيليّة في إصدار التصاريح أبطأت العمل على مشاريع مختلفة، من ضمنها مشاريع هيئات دوليّة، بل وأضرّت سابقًا في عمل البنى التحتيّة وبإمكانيّات تطويرها.

فسّر نجّار أيضًا أن تدهور الأوضاع الاقتصاديّة لأهالي القطاع بسبب الإغلاق وجولات القتال يُسقِط الآن على إمكانيّات جباية فواتير المياه من السكّان وبالتالي على قدرة مصلحة المياه لشراء الوقود من أجل تشغيل المولّدات الكافية لتشغيل الآبار ومحطات تحلية المياه والصرف الصحيّ. “ليس الأكل وحده حاجة إنسانية، إنما الماء والصرف الصحيّ أيضًا، وخاصةً في فترة الكورونا،” يقول “كيف يمكن أن نتوقع من الناس أن تحافظ على قواعد الحذر والنظافة إن لم تمتلك ماءً؟”

تُكتب هذه السطور بعد مرور ثلاثة شهور على وقف إطلاق النار. في إسرائيل تتواصل الادعاءات بالالتزام بتوفير “الحاجات الإنسانية الأساسيّة”، ولا زال ممثلو إسرائيل يدّعون التزامها بذلك. عمليًا، هذه ادعاءات واهية، فإسرائيل لا تمنع من سكان القطاع واحدة من حاجاتهم الإنسانيّة الأكثر أساسيّة فحسب، لا بل تستخدم هذه الأزمة الإنسانيّة من أجل تقوية موقفها في مفاوضات سياسيّة أمام حماس.

هذا وضع لا يقبله العقل. للسيطرة الإسرائيليّة على المعابر إسقاطات خطيرة على حياة 2 مليون إنسان في قطاع غزّة، نصفهم من الأطفال. وتنطوي هذه السيطرة على واجبات أخلاقيّة وقانونيّة بحماية حقوق الناس والتأكد من امتلاكهم ما يحتاجون لعيش حياة صالحة. تتضاعف أهميّة هذه الواجبات مع الأضرار الواسعة لآلاف الوحدات السكنيّة والتجاريّة، المراكز الطبيّة والبنى التحتيّة المدنيّة. إنما، وبدلًا من الالتزام بالمسؤوليّة اتجاه السكان، تستغل إسرائيل سيطرتها على المعابر وتعاقب السكّان عقابًا جماعيًا، دون أن يكون لديهم أي صلة أو تأثير على المفاوضات بين إسرائيل وحماس.

بعد أن أعلنت إسرائيل منتصف آب عن فتح إمكانيّة تنسيق دخول البضائع الحيويّة للبنى التحتيّة للماء والصرف الصحيّ توجّهنا لنجّار مجددًا. صادقت إسرائيل على قائمة صغيرة جدًا، تنقص منها مواد ومعدات كثيرة ضروريّة لتشغيل وإصلاح منظومة المياه وليس من الواضح متى سيُسمح فعليًا بدخول المواد إلى غزّة. سمحت إسرائيل دخول مواد كثيرة كانت عالقة في ميناء أشدود في نهاية آب. وينتظرون في مصلحة المياه ردًا إسرائيليًا على طلبات لدخول معدّات ومواد أخرى ضروريّة لإصلاح أضرار الحرب. “نكتشف طوال الوقت المزيد والمزيد من الأضرار، نصلح ما استطعنا، ولكن ذلك غير كافي البتة” قال بقلق. “الشتاء يقترب، وإن لم نصلح الأضرار حتّى ذلك الوقت ستفيض البيوت بالمياه. كيف يُمكن ألا يُعتبر الماء والصرف الصحيّ شأنًا إنسانيًا بالنسبة لإسرائيل؟” يتساءل النجّار، “يحتاجها الناس للبقاء على قيد الحياة”.

*

هذا المقال نُشر في هندسة المياه – مجلة المياه الاسرائيلية، ايلول 2021.